على هامش المؤتمر الأمنى الذى انعقد فى ميونخ يوم الاثنين الماضى، بحث وزراء خارجية الاتحاد الأوروبى إمكانية بلورة مبادرة تكون بديلاً لخطة السلام الأمريكية المقترحة من جانب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والمعروفة بصفقة القرن، على اعتبار أن دول الاتحاد الأوروبى متمسكة بحل القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين والقدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، لكن عملياً فإن أوروبا ليست لاعباً رئيسياً فى الشرق الأوسط، ولم تكن يوماً، فهناك قوى دولية أكثر تأثيراً هى أمريكا وروسيا تستطيع قلب المعادلة بسهولة، ولو كان لدول أوروبا هذا الدور لاستطاعت على الأقل اتباع سياسة فرض العقوبات على إسرائيل، مثلاً فرض عقوبات اقتصادية، أو سياسية بتخفض التمثيل الدبلوماسى والاعتراف العلنى بدولة فلسطينية على حدود 1967، لكن هذه القدرة شبه معدومة بسبب ثقل ووضع الاتحاد الأوروبى فى منطقة الشرق الأوسط الذى يكاد يكون معدوماً، لذا فإن التوقعات من تلك المبادرة ليست بالكثير، وإسرائيل تعرف يقيناً أنه لن يكون هناك اتفاق فى الشرق الأوسط على هذه المبادرة ولن تتحول إلى الصيغة المقبولة مهما كان الثمن.
يبحث الفلسطينيون عن حل، هذا صحيح بعد الصفعة المدوية التى وجهها الرئيس الأمريكى لهم، وبعد تغير خريطة التحالفات العربية والإقليمية فى المنطقة، وانفراد إسرائيل بالسلطة الفلسطينية فى الضفة وعزل حماس فى غزة، لذا يحاول مهندس الصفقة جاريد كوشنر التسويق لها عبر بث الاتهامات للفلسطينيين بأنهم أفضل من يجيدون لعبة إضاعة الفرص التى أوصلتهم إلى هذا المآل!. قد ينطلى هذا القول على الكثيرين ممن لا يقرأون التاريخ ولا يتابعون تسلسل الأحداث، فمن الأدلة التى تظهر أن الفلسطينيين لم يضيعوا أى فرصة الكثير، وأبدأها بمسألة الحوار الأمريكى - الفلسطينى الذى تم طرحه فى ثمانينات القرن الماضى ووافق الفلسطينيون حينها على إعلان نبذ العنف والعمليات العسكرية، وبدأت جولات من الحوار الأمريكى الفلسطينى للوصول إلى فرصة للسلام، وعندما انعقد مؤتمر مدريد لم يضيع الفلسطينيون تلك الفرصة وشاركوا فيها على الرغم أنهم كانوا تحت مظلة الوفد الأردنى، وعندما بدأت محادثات أوسلو انخرط الفلسطينيون فيها من أجل الوصول إلى إعلان المبادئ، ثم دخل الفلسطينيون فى مفاوضات القاهرة للوصول إلى اتفاق غزة - أريحا أولاً، ثم عندما طرح الرئيس الأمريكى الأسبق بل كلينتون مبادرته، دخل الفلسطينيون بكل ثقلهم فى «كامب ديفيد2» عام 2000، وحاولوا الاتفاق مع الحكومة الإسرائيلية، لكن الوضع كان قد حسم فى إسرائيل بعد اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين، وانقلب اليمين الإسرائيلى على كل الاتفاقات مع الفلسطينيين، وبدأ فى محاولاته اليائسة لتوسيع الاستيطان وضم القدس وإنهاء قضية اللاجئين.
ما يريده «كوشنر» فى الحقيقة هو التراجع عن ربع قرن من المفاوضات والاتفاقات والمبادئ التى تم الاتفاق عليها وطرح مرجعية دولية جديدة تنسف كل ما تم الاتفاق عليه سابقاً!. ومن هنا فإن هناك شكاً أن يتمكن الاتحاد الأوروبى من إعلان مبادرة موازية لخطة «ترامب»، ويكاد يكون من المؤكد أن تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً شديدة على أوروبا لمنعها من إعلان مثل هذه المبادرة، أما صفقة ترامب نفسها فلن تتحول إلى صيغة دولية مقبولة، لكن سيعمل الإسرائيليون على تنفيذها (step by step) لتحويلها إلى أمر واقع، ومن المتوقع أن تبدأ هذه السياسة فور الانتهاء من الانتخابات فى شهر مارس المقبل، بالضم التدريجى للأراضى خاصة غور الأردن والكتل الاستيطانية الكبرى، ورغم المقاومة والرفض الفلسطينى للصفقة والمحاولات الحثيثة لإفشالها، إلا أن ذلك لا يستطيع تقييد الإجراءات الإسرائيلية أو منعها على الأقل فى الضفة الغربية، وبالتالى لن يكون هناك تغيير جوهرى فى عملية السلام. فعندما يكون الاتحاد الأوروبى فى مواجهة الولايات المتحدة، فإن الكفة الراجحة ستكون للولايات المتحدة وإسرائيل، ولا عزاء للضعفاء.