لست بعلّامة فى التاريخ، ولا أدّعى، لكن ذلك لا يحرمنى الولوج إلى صفحاته من حين لآخر، علَّنا نستضىء.. وهكذا تعاملت وكتيب صغير، ضمن ما يمكن وصفه بالمكتبة الصغيرة للمؤرخ المعروف تقى الدين بن أحمد بن على المقريزى (١٣٥٦ ميلادياً والمتوفى ١٤٤٢ ميلادياً).. الكتيب قدم له أستاذنا العظيم دكتور سعيد عبدالفتاح عاشور، أراد فيه المقريزى الكشف عن الأزمات الاقتصادية التى تعرضت لها مصر منذ القدم حتى القرن الخامس عشر الميلادى، وكان وراءه أن المقريزى فقدَ ابنته فى الوباء الذى اجتاح مصر، بين ٧٩٦ هجرياً و٨٠٨ هجرياً.. مما ترك بنفسه أثراً عميقاً دفعه للعكوف على تأليف «إغاثة الأمة فى كشف الغمة»، الذى ربط فيه ما بين عدة ظواهر، منها انخفاض مستوى النهر وما يؤدى إليه من جفاف وموت للحياة، وتخلق الوباء، وما يستتبع ذلك من تلاعب للتجار وسعار طبقة المستفيدين. يقول أستاذنا الدكتور سعيد عاشور إن المقريزى الذى عاش فى حلقة من حلقات العصور الوسطى، قد تجاوز بفكره دائرة تلك العصور وقدم من الأحكام ما يردده رجال الفكر فى عصورنا الحديثة.. ولا أعرف بالضبط كيف يمكن للمقريزى لو كان بيننا أن يرى اللحظة التى نعيشها الآن.. المؤكد أننا لم نتعرض لمثل هذا «الاختبار» من قبل.
لا آباؤنا ولا نحن، عشنا ما يشبه هذه «اللحظة».. وليس فى تاريخنا نموذج مشابه، يمكن أن نجرى عليه قياساً، ولا حتى قرأنا فى تاريخنا ما يقترب من ذلك الحصار الذى يسعى إلى «خنق» مصر و«وأد» شعبها.. حصار ليس من ثلاث ولا أربع جهات، ولكن خمس (ولا أعتقد أنى بحاجة للتذكير فعلاوة على أخطار تقف على حدودنا شرقاً وغرباً وجنوباً، هناك الإرهاب وكورونا).. وعلى مصر أن تنجو.. فيما كان من قبل، كانت هناك حدود دنيا لقواعد ملاعب السياسة، لكننا فى زمان بلا قواعد فى ملعب السياسة، ليس أمامنا إلا «تحالفات ومصالح» متغيرة لا يمكن الارتكان إليها ولا الاعتماد عليها.. لكن هذه «اللحظة الوجودية» بامتياز، يقابلها سعى ورغبة فى استمرار الحياة.. هناك «غد» نتكلم عنه، وإدارة تخطط وتنفذ مشروعات لأجله بثبات وقوة ووضوح.. نتكلم عن صادرات للبرتقال تسيّدت هذا العام، ومشاريع للتصنيع واستعادة الزراعة، عندك «مشروع»، تتفق أو تختلف فى تفاصيله، لكن فيه بلد تخطط لِغَد، ولابد أن تحمى هذا الغد. إذا نظرنا شرقاً وغرباً حتى الجزائر، وجنوباً، لن تجد إلا «دولة» واحدة صاغ سليم هى «مصر».. نعم «دولة» لها جيش وإرادة ومستقبل تعمل له.. حياة مستمرة وإرادة حياة، بعنفوان الحياة نفسها.. هذه اللحظة لا بد أن تتلاقى فيها كل «الإرادات»، وعلينا جميعاً أن نحمى هذا التلاقى بوعى ومسئولية.. هى لحظة الإيمان برحلة الوطن.. لحظة إنفاذ القانون ومساندة إرادة الدولة فى إنفاذ القانون وسيادته.. لحظة إقصاء أى شكل فى الإدارة يعلى من فكرة «اللقطة» والصورة.. ولا يعرف حقيقة ما يجرى فى الشارع.. الضرب على «المتلاعبين» فى الأسواق، و«الكاسدين» فى تدوير مصالح الناس، لحظة «الانضباط المجتمعى»، من أول مواعيد غلق المحال، إلى إشارات المرور، ولحظة الفصل البين بين حرية الاعتقاد وسماحة الدين وطيبه وأطيابه وبين الممسكين بمفاتيح الجنة والنار.. لحظة تحتاج إلى إعلام يملك رؤية ولا يعيش «بالقطاعى».. لحظة لا بديل للوطن فيها عن تلاقى الإرادات.