لا أدرى كم مرة كتبت عن الإرهاب الفكرى الذى يحاصرنا بسيل من فتاوى التكفير، ولا كم داعية إسلامى طالبت بمحاكمته بسبب إشعال الفتنة الطائفية وازدراء الإسلام قبل المسيحية.. فحرائق الفتنة تلتهم حتى ذاكرة الوطن، فلا تمر كارثة إلا يعقبها طوفان من الأسئلة نغرق فيه جميعاً.. عندما قال الداعية «سالم عبدالجليل»، وكيل وزارة الأوقاف السابق، عن المسيحية إنها «عقيدة فاسدة»، لم يُحاكم بتهمة ازدراء الأديان، البعض يرى أن مجرد وقوفه أمام هيئة المحكمة هو إعلاء للدستور والقانون، لكن ما حدث كان العكس.
المحاكمة العلنية التى شهدها المجتمع، بكل ما فيه من إعلام ومواقع تواصل اجتماعى وملتقيات دينية وسياسية، كانت محاكمة «دينية» بالأساس.. تطرح الأسئلة المحظورة حول عقيدة الآخر، وتقدم بدائل أكثر تطرفاً حول «تكفير المسيحيين»، وتفجر ألغاماً جديدة فى وجوهنا!.
لم تتم محاكمة «عبدالجليل» على أساس «مدنى»، وكأننا نطبق القانون بشكل انتقائى.. أو أن مادة «ازدراء الأديان» مثلاً تطبق فى حالة إهانة الدين الإسلامى ولا تطبق فى حالات أخرى!.
نفس الأمر تكرر مع «عبدالله رشدى»، الذى احترف تكفير الأقباط والتحريض عدة مرات على إهدار قدسية الكنائس وهدمها واغتيال الأقباط واستحلال أموالهم وأعراضهم وممتلكاتهم، مروراً بتحديه السافر للدستور والقانون بتأكيده المستمر على أفكاره التكفيرية، وتحليل زواج القاصرات، والعداء السافر بل ومحاولة اغتيال رموز الاستنارة، وصولاً إلى التحريض على تختين الإناث.. والتطاول على قواتنا المسلحة.. لكنه لم يُحاكم!.
فقط قررت وزارة الأوقاف المصرية إحالة «رشدى» للتحقيق بديوان عام وزارة الأوقاف.. ولم تطبق وزارة الأوقاف ما أعلنته عبر موقعها الرسمى أن: «من يحاول أن يستخدم صفحات مواقع التواصل لغير ما يتسق مع طبيعة عمله إماماً، بمحاولة تجييش الرأى العام تجييشاً سلبياً، أو فيما يضر المصلحة الوطنية، أو تكوين أى تنظيم أو الدعوة إليه خارج إطار القانون أياً كان هذا التنظيم، أو الإساءة إلى أى من زملائه أو العاملين بالوزارة، أو من يستخدم صفحته أو المنبر أو المسجد للإساءة لأى شخص أو جهة أو مؤسسة، أو أى كيان من كيانات الدولة، سواء أكان إماماً أم إدارياً أم عاملاً، أم منتسباً بأى صفة إلى الأوقاف، فهو أمر مرفوض ولن نقبله»!.
فعلى من تطبق محاكم تفتيش الشبكة العنكبوتية؟.. من السهل أن تجد أكشاكاً لهيئة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» على مواقع الإنترنت وأولها موقع «تيك توك».. وأكشاك الفضيلة هذه تحترف تقديم الفتيات للمحاكمة بتهمة «إثارة الغرائز» التى ابتدعها «أبومجانص»، وهيئة «حماية الأخلاق» تقوم بدعاوى «حسبة دينية» رغم أن القانون يحدد أن النيابة العامة وحدها تختص بتحريك الدعوى الجنائية بصفتها «المحتسب عن المجتمع».
والتهم التى توجه للفتيات تبدأ من خدش الحياء العام لتصل إلى التحريض على الفجور والدعارة وتهديد الأمن القومى.. (وهذا أمر تقديره متروك للمحكم)، ولكن ما يثير التعجب هو الهجوم الممنهج على مواقع التواصل الاجتماعى (فيس بوك، تويتر، إنستجرام)، بزعم حماية القيم والشرف والعفة والكرامة من رقصات مثيرة جنسياً، وقد وصلت الاتهامات إلى حد التحريض على الفسق والفجور.. ولكن لم يحدث بالتوازى إغلاق للصفحات التى تحرض على تكفير الآخر وتسخر من عقيدته وتوفر الإطار النظرى لأى إرهابى لتفجير كنيسة أو منشأة عسكرية.. ولم يقدم أحدهم للمحاكمة؟!.
والأغرب أن حملة تطهير الإنترنت من الرقص والإغراء بالملابس المثيرة تحدث فى بلد به ملاهٍ ليلية، ويتقاضى الضرائب عن مهنة «الرقص» ويضع ضوابط رقابية لبدلة الرقص!.
الأخطر من كل ما سبق أن بالقانون مواد «سالبة للحريات» لم يتم تنقيتها، وتحتوى على جمل مطاطية يمكن أن تطال أى كاتب من تيار الاستنارة الذى تتربص به «كتائب الحسبة».. فحتى الآن مادة «ازدراء الديان» مثلاً لا تحدد بشكل قاطع ما هو «الازدراء» وما هى «الثوابت»، مما يضطر المحكمة للجوء إلى «مجمع البحوث الإسلامية» وهو جهة ليست محايدة فيما يتعلق بنقد الفكر الدينى بشكل عام.
وإذا كانت القيادة السياسية تطالب بثورة فكرية، فهذا لن يحمى أى كاتب من تهمة الطعن فى الثوابت وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة.. خاصة أن شيخ الأزهر الدكتور «أحمد الطيب»، والتابع له «مجمع البحوث الإسلامية»، يعتبر أن السنة النبوية الشريفة، (بما فيها من أحاديث ضعيفة)، تمثل ثلاثة أرباع الدين بينما القرآن الكريم يمثل الربع!.
كنا نعترض -فيما سبق- على أن نقد سياسات الحكومة يسهل وصفه بتهم من عينة «تكدير السلم الاجتماعى والأمن العام»، وهى التهم التى تنطبق فعلياً على «عبدالجليل ورشدى»، لكننا أصبحنا أمام حديث ضعيف يمكن أن ينقل أى كاتب إلى خلف القضبان.. رغم أن المملكة العربية السعودية أنشأت هيئة لمراجعة هذه الأحاديث واستبعاد ما يحرض منها على التطرف والإرهاب.. تخيل أنك تنتقد مثلاً تدريس «أكل لحم الأسير أو نكاح المتوفاة» فى المناهج الأزهرية فتُتهم بازدراء الإسلام.. وتتكرر مأساة سجن الباحث «إسلام بحيرى»!.
لابد أن نعترف بأن لدينا قوانين معيبة كان الأجدى تنقيتها لحماية الشرف والفضيلة.. فكيف يكون الرجل شاهداً على المرأة فى قضايا الدعارة، إنه القانون الذى يعاقب البغىّ ويبرئ طالب المتعة؟.
نفس الرجل -الزوج- يملك التنازل عن دعوى الزنا ضد زوجته، حتى لو صدر ضدها حكم نهائى، فهل هذا قانون يحمى «الشرف» أم أن الشرف ملكية خاصة للرجال؟!.
ما يحدث الآن من هجمة على السوشيال ميديا باسم «حماية الفضيلة» هو تهديد مباشر للحريات المنصوص عليها.. وقمة الهزل أن نتحدث عن «الفضيلة» ولدينا قوانين غير أخلاقية.