أرضٌ خُلقت للسلامِ وما رأت يوماً سلاماً، وقد لا تراه أبداً.. فلسطين التى تقطعت إرباً وجاء إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أن إسرائيل لن تفوت «فرصة تاريخية» لمد سيادتها على أجزاء من الضفة الغربية، ليؤكد أننا أمام الصفحة الأخيرة فى سجل محاولات صناعة ما سمى «السلام العربى الإسرائيلى».
فور إعلان الرئيس الأمريكى «ترامب» عن صفقة القرن على أنها خطة سلام أيقنت أنها تضع نهاية الفرص لصناعة سلام حقيقى فى الشرق الأوسط، ومع توجه رئيس الوزراء الإسرائيلى لتنفيذ بنودها وضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية تحولت الصفقة إلى مصدر للتوتر والقلاقل وجاوزت تأثيرات الإعلان عنها والسعى لتنفيذ بنودها إلى القضاء على مفهوم «التعايش السلمى» الذى كان من الوارد حدوثه فى ظل حل الدولتين من الأساس.
خطاب حل الدولتين ظل مرفوضاً لمدة 27 عاماً من اليمين واليسار (حزب العمل). فقد أيد الليكود السيادة الإسرائيلية على كل مناطق «يهودا والسامرة وغزة» مع إعطاء حكم ذاتى للفلسطينيين، بينما أيد حزب العمل «الحل الوسط الإقليمى» مع الأردن، وجاء «حزب كحول لبان» الشريك فى الحكومة الائتلافية ليؤكد من خلال مواقفه السياسية أنهم يتوحدون فيما يخص القضية الفلسطينية رغم خلافاتهم ويتفقون على إنكار الحقوق العربية كافة.
خطة «ترامب» تقبل بحل الدولتين ولكنها تدمر فرص إنشاء دولة فلسطينية ذات أرض متسعة ومتصلة وتستولى إسرائيل بموجب الخطة الأمريكية على ثلاث مناطق: غور الأردن، كل «الكتل الاستيطانية» و19 مستوطنة منعزلة ستكون فى قلب الدولة الفلسطينية. وبالمقابل يحصل الفلسطينيون على أرض فى غربى النقب، ومن المهم استغلال وجود «ترامب» كرئيس للولايات المتحدة والبدء فى تنفيذ الخطة، للإسراع بضم كل أو جزء من الـ30 فى المائة المخصصة لإسرائيل.
إسرائيل لم توفر لمواطنيها بمن فيهم اليهود المتطلبات الأساسية للبيئة الديمقراطية العادلة ولا يمكن أن تقدم أية تنازلات فى سبيل التعايش مع الفلسطينيين بسلام فى دولة واحدة أو دولتين فى ظل سعيها لإقامة الدولة اليهودية.
لن تقبل إسرائيل بإعادة النظر فى المستوطنات ورفع الحصار عن غزة وإعادة توطين اللاجئين وفتح باب العودة للفلسطينيين فى المهجر لما يشكله من تهديد يجعل من اليهود أقلية.
لا يمكن التعويل على أى شكل من الاتفاقيات والخطط والمفاوضات فى الوصول بنا إلى حلول تحقق أى قدر من المتطلبات الفلسطينية بعد كل هذه السنوات من الجولات التفاوضية والمبادرات العربية والدولية التى أفضت لما نحن عليه الآن وضياع شبه كامل للحقوق ودخول عدد غير قليل من الحكومات العربية حظيرة التطبيع الكامل مع الدولة العبرية سراً وعلانية.
من جانبه، كان بينى جانتس واضحاً: سنعمل على ألا تصبح إسرائيل دولة ثنائية القومية، معرباً عن أمله فى أن يتحقق هذا الهدف فى إطار حوار مع الولايات المتحدة ودول العالم والفلسطينيين إذا أرادوا المشاركة فى هذه العملية، وأضاف أنهم بصدد وضع الآلية لتنفيذ خطة «ترامب» كونها الخطة الأولى التى تعبر عما يحدث على أرض الواقع. وكشف أن الحزب لا يراهن على خطة الضم، سواء حالياً أو آجلاً، فالكل يعمل على قومية الدولة ووفق مخطط «ترامب».
بات واضحاً أن الرؤى الإسرائيلية ترتكز على شرعنة الأوضاع الراهنة للاستفادة من التفكك الفلسطينى والصراع المستمر بين حركتى فتح وحماس والانشغال العربى بالأوضاع المتردية والصراعات التى ضربت الدول المحورية فى المنطقة وورطتها فى حروب شغلتها واستنزفت المقدرات العربية وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية التى لم تعد القضية المركزية.
على المستوى الدولى لم يعد للمؤسسات الأممية ذلك التأثير، رغم الرفض الواسع لخطة الضم بحسب الأمين العام للأمم المتحدة: إن ضم إسرائيل الأحادى لأى جزء من الضفة الغربية المحتلة سيغلق بالتأكيد الباب لاستئناف المفاوضات ويقضى على آفاق إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة وحل الدولتين وسيكون ذلك كارثياً على الفلسطينيين والإسرائيليين والمنطقة بأسرها.
الاتحاد الأوروبى هو الآخر يرفض خطة الضم على لسان ممثل الاتحاد سفين كون فون بورغسدورف: إن الاتحاد لا يعترف بالسيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، مشيراً إلى أن «أى ضم من شأنه أن يشكّل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولى، وأن يقوّض آفاق حل الدولتين، وهو مرفوض من قبلنا».
تقارير أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تحمل العديد من التخوفات أن يشهد الوضع الأمنى فى الضفة الغربية تدهوراً بعد بدء الحكومة الإسرائيلية خطوات ضم أجزاء من الضفة الغربية تحت السيادة الإسرائيلية وهو ما يستند له قطاع غير محدود من الساسة فى المطالبة بتأجيل هذا الإجراء رغم تصريحات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أن السلطة لن تسمح بالعنف ولا بالإخلال بالنظام، ما يعنى أن أجهزة الأمن الفلسطينية سيكون لها دور للحد من الاحتجاجات حال اندلاعها.
قطاع آخر يرى فى تلك التقارير مبالغة فى تقدير ردة الفعل الفلسطينية المحتملة مع استمرار الأوضاع هادئة ومستقرة طوال السنوات الماضية فى الأراضى الفلسطينية رغم المشاكل الاقتصادية والأزمات السياسية المتكررة والتى كان أكبرها الاعتراف الأمريكى بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة بالفعل وهو ما لم يحرك ساكناً على المستويين العربى والفلسطينى.
أيقنت إسرائيل أن بعض تقديرات أجهزتها الأمنية جانبها الصواب وأن الخوف من اندلاع أعمال عنف وانتفاضة فلسطينية ثالثة أمور لا تتوافر لها الظروف المواتية وهو ما لن تضيف له خطوة الضم بناءً على قلة العمليات التى شهدتها الأراضى المحتلة وعدم تبنى تنظيمات لها واستمرار الانقسام الفلسطينى الذى لا تلوح له نهاية قريبة.
لا شىء يعطى مؤشراً حقيقياً على طبيعة الحراك المحتمل فى الشارع أو على المستوى الدبلوماسى سوى بيانات الشجب المتوقعة التى ستنضم إلى سابقاتها وهو ما لن يغير شيئاً على الواقع.. عملية الضم ستتم كخطوة على طريق وأد «الحل السلمى» والقضاء على حلم الدولة الفلسطينية المستقلة إلا إذا تغير الوضع الداخلى وتوحدت الفصائل وحدثت المعجزة المستحيلة.