البيانان اللذان صدرا الجمعة الماضى، من المجلس الرئاسى والبرلمان الليبى يعلنان فيهما وقف العمليات العسكرية فى جميع الأراضى الليبية، حظيا بترحيب واسع من كل الأطراف المعنية، ربما للمرة الأولى التى يتوافق فيها رد الفعل على هذا النحو تجاه خطوة ما تخص الأزمة الليبية. وهو يمثل ملمحاً إيجابياً دون شك، لكنه فى ذات الوقت يثير تساؤلات عدة، لن تقف عند حد الدهشة من هذا الاحتفال بـ«خطوة» طال انتظارها، رغم وضوح المسببات التى ظلت تحول دون الوصول إليها، فضلاً عن معرفة الأطراف التى مثلت الجانب المعطل لتلك الخطوة التأسيسية، حيث يبدو الحديث عن توافق سياسى دون تحققها عبثياً، ويبدو كحالة دوران فى المكان.
لذلك بالرغم كون المقال معنياً بـ«ما بعد» مثلما جاء عنوانه، لكن الإشارة إلى ضرورة المكاشفة فى تحديد الطرف، الذى حال ويحول دون الوصول إلى معادلة أمن يمكن الانطلاق المبدئى فى ظلها، للتباحث حول نظام الحكم والانتخابات والدستور وعديد من هياكل العمل المؤسسى الذى يجتهد فيه الكثيرون الآن. هناك نص واضح فى بيان حكومة الوفاق يتحدث عن خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، وهنا يبدأ الضباب الكثيف يلف سطور «ما بعد» اعتراف من هذا النوع، ففى حال ظن فايز السراج أن الآخرين يمكنهم قبول أى معنى لهذا الطرح، سوى أن القوات التركية هى المقصود الواقعى بالقوات الأجنبية، وأن المرتزقة الذين تم جلبهم من سوريا ومؤخراً من الصومال بمعرفة تركيا وقطر، هم القابعون فى أكثر من موقع بالغرب الليبى منها العاصمة طرابلس، التى شهدت قبيل ساعات من بيان الوفاق المشار إليه تظاهرات شبابية بالسترات الصفراء، تعبر عن احتجاجها وضيقها من تغول العناصر الأجنبية التى تنامت لحد ابتلاع العاصمة من أبنائها الليبين. حينها سيكون هناك اصطناع لـ«حالة عبثية»، لو بدا الأمر مستقبلاً بعد بيان الوفاق إعادة إنتاج لاتهاماته للطرف الآخر بذات التهمة، التى انكشف تهافتها ولم يظهر لها دلالة واحدة. فى الوقت الذى تنقل فيه وكالات الأنباء العالمية زيارات وزير الحرب التركى داخل المعسكرات والقواعد العسكرية التى كبلت الوفاق نفسها بالسماح بها، بل ومع اصطحاب الوزير التركى لنظيره القطرى فى زيارته الأخيرة، انتقل الأمر لخطط تطوير هذا الوجود وترتيب آلية جديدة لتغطية نفقاته، لاسيما مع البدء فى التباحث والمعاينة لتوسعة الاستحواذ على «الارتكازات الساحلية» بالخصوص.
تلك التفاصيل لم يقف أثرها عند حد الغضبة الشعبية الداخلية فقط، إنما تحدث بشأنها الوزير الألمانى «هايكو ماس» فى زيارته الأخيرة لطرابلس، مشيراً إلى أن الوضع على هذا النحو يبدو خطيراً، ومدمراً لأى جهود دولية لمسارات الحل المستقبلى. هنا يعود الضباب ليتكثف حول أبعاد الخطة التركية القطرية الكبرى، التى تجرى على قدم وساق فى نطاق الغرب الليبى غير آبهة بهذه المتغيرات، ليثور تساؤل منطقى عن المغزى والدافع الحقيقى لصدور بيان الوفاق، بعد أيام من مغادرة وزير الخارجية الألمانى، هل جاء إطلاق البيان كنوع من تسكين الضغوط التى بدأ الوفاق يستشعر جديتها، من أطراف دولية لا يملك مساحات كبيرة للمناورة أمامها. فهناك ضغوط أمريكية أيضاً وصلت لطرابلس بأنه لا مفر من الانخراط فى العملية السياسية، وأن المبادرة المصرية هى الأقرب والأنضج للتفاعل معها، فضلاً عن أن الخطوط المصرية الحمراء التى جرى الإعلان عنها، خضعت لتقدير أمريكى مفاده أن صداماً مسلحاً بين مصر وتركيا فى ليبيا، كفيل بإجهاض وإرباك المعادلة الأمنية الهشة بالشمال الأفريقى ومياه المتوسط، مما دفع الولايات المتحدة لإنفاذ بعض من مبعوثيها المؤثرين عشية صدور هذه البيانات، لإجراء مجموعة من المقابلات، المؤكد أنها ساهمت فى انتزاع هذا البيان من الوفاق بقبول وقف إطلاق النار.
المتفائلون ينظرون لما جاء فى بيان الوفاق، باعتباره طرحاً يمثل وجهة نظر يتلاقى فى جانب منه مع رؤية أمريكية جرى اختبارها قبل أسابيع، فيما يخص مدينة «سرت» منزوعة السلاح كخطوة تمهيدية. فى الوقت الذى يرى الواقعيون وكثيرون من داخل ليبيا قرأوا ما جاء بالبيان باعتباره شروطاً، تسهل للوفاق نقض التزامها بوقف العمليات العسكرية، أو خروج المرتزقة، بمجرد رفض الطرف الآخر وضع «سرت» وفق تلك الصيغة. على امتداد خط تلك القراءة يبدو البيان فعلياً فى هذا التوقيت، يمثل للوفاق «وقفة تعبوية» تسمح للحليف التركى بالاحتفاظ بمكاسبه التى حققها فى الغرب، وتعطى له فسحة زمنية حتى مارس القادم لاستكمال مشروع قواعد الساحل الليبى، والاستحواذ على الموانئ الذى بدأ منذ سنوات ويرغب فى شرعنته باتفاقات تبدو قانونية، تمكنه من الاحتفاظ بها فى ظل التسويات القادمة. خيارات وبدائل من هذا النوع، ليست بخافية على الكثيرين منهم القاهرة على الأقل، التى تدرك حجم المطامع والمخططات التركية، وإطلاقها لخطوطها الحمراء الممتدة حتى الآن كان تصدياً وجاهزية، أمام هذا المشروع العثمانى المدمر لمستقبل ليبيا، الذى يراهن اليوم على إمكانية دفع الأمر مرة أخرى للتقسيم، والاحتفاظ بمكاسبه فى الغرب حيث يستثمر الوقت فى إحكام قبضته الناعمة عليه تباعاً. لكن قيادات الوفاق على هذا النحو يكونون فى ظل التنافس الذى يجرى الآن فيما بينهم، قد أدخلوا الغرب برمته، فى مغامرة غير مأمونة العواقب تعيد المشهد إلى المربع الأول.
ضباب كثيف يلف المشهد الليبى، ربما أصعب من مراحل عديدة مر بها قبلاً، فاليوم هناك من يظن أن القادم هو محطة الأمتار الأخيرة، التى يستلزم استثمارها لحصد المكاسب ومساحات النفوذ، دون النظر لمكامن الخطر والتهديد وللألغام الكامنة فى جنبات وتفاصيل مشهد إقليمى شديد التعقيد. فحتى اللحظة لم يختبر أحد جمع عوائد النفط وكيفية توزيعها، فيما لم تتشكل الإجابة بعد عن عشرات الآلاف من المسلحين أين سيذهبون ومن سيحملهم، كما تبقى المعادلة الرئيسية للتوازن الإقليمى التى لن يقبل أحد بأن تكون تركيا على الجنب الآخر منها وقد ابتلعت نصف ليبيا الموعودة.