الهجرة فطرة أودعها الله فى نفوس الحيوانات والطيور والأسماك قبل الإنسان، فالحيتان تهاجر آلاف الأميال من المياه الباردة إلى المياه الدافئة لتضع مواليدها هناك، والفراشات تهاجر، والأفيال كذلك، حتى البطريق البطىء الخطى يهاجر لمسافة 70 كم من أجل الزواج، واختيار شريك الحياة، ويظل هناك بقية عمره الذى يصل إلى عشرين عاماً، وسمك السالمون، وهو أرقى الأسماك، هجرته تعد من أكبر الهجرات على الأرض، فهى تلد فى الماء العذب وبعد خروج البيض بعدة أشهر تهاجر إلى البحار حتى تصل لسن البلوغ ثم تعود إلى المياه العذبة لكى تضع البيض من جديد فيها، وأثناء هجرتها تسبح ضد التيار فى مناورات رائعة للهروب من الأسماك المفترسة. والحقيقة أن كل مهاجر يذوق الأهوال وهو يسبح دوماً ضد تيارات كثيرة تعاكسه وتضاده، وكأن السنة التى وضعتها أسماك السالمون تنطبق على كل المهاجرين. ورغم قسوة الهجرة فإن فيها حياة جديدة وعافية بعد كرب وعزاً بعد ذل وعلماً بعد جهل، فلولا الهجرة لركدت الحياة، ولولاها لنضب العلم وبدونها ما تحققت التعددية، ولولاها ما عرفنا تعددية الأعراق والألوان فى بلد مثل مصر. لولا الهجرة ما ركب نوح سفينة النجاة مع زوجين من كل الحيوانات والطيور لتبدأ حياة جديدة يغمرها الإيمان بعد الكفر، والشكر بعد الجحود. ولولا الهجرة ما ذهب إبراهيم بزوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل إلى الصحراء فى جزيرة العرب، ولولاها ما تدفقت زمزم التى تسقى وتشفى الحجيج والناس حتى يومنا هذا، ولولا هجرة هذه الأسرة المباركة ما وجدت مكة قِبلة المسلمين جميعاً.
ولولا هجرة إبراهيم، عليه السلام، إلى مصر مع زوجته سارة ما حلّت بركته عليهم، وما تزوج هاجر المصرية التى أصبحت بعد ذلك أماً للعرب والمسلمين والتى يخلّد الحجاج مواقفها الإيمانية كل عام.
ولولا الهجرة ما شرفت مصر بأنبياء الله: «يعقوب ويوسف والأسباط»، وكذلك أولادهم وأحفادهم من الأنبياء، وعلى رأسهم موسى وهارون، عليهم السلام جميعاً. ولولا هجرة موسى، عليه السلام، من مصر لوئدت دعوته وقتله فرعون، ولولا هجرته من فلسطين إلى مصر عائداً إليها ما تنزّلت عليه ألواح التوراة، وما كلّمه الله كفاحاً وما شرفت طور سيناء الحبيبة بهذا الوسام. ولولا الهجرة ما حلّت بركة المسيح وأمه مريم، عليهما السلام، على مصر، وما شرفت مصر بهذه الزيارة التى منحت الخير والسعادة والبركة لمصر كلها.
وقد اختار الله مصر دون غيرها مكاناً لرحلة المسيح ومريم لعلّة يعلمها الله، رغم أن أقطاراً كثيرة كانت آمنة أقرب إلى الناصرة وبيت لحم من مصر، ولكن الله أراد الشرف لمصر بقدوم العائلة المقدسة إليها، كما شرفها من قبل بإبراهيم وسارة وهاجر وموسى وهارون وإدريس. ولولا الهجرة ما دخل الإسلام إثيوبيا وجنوب السودان عن طريق الصحابة الذين احتموا بالنجاشى، فحمت المسيحية الإسلام فى مهده وضعفه، ورد لها الإسلام الجميل حينما فتح مصر وفلسطين وبلاد الروم، فلم يمس كنيسة بسوء ولم يتعرض لراهب، بل أعاد القساوسة إلى كنائسهم. ولولا هجرة مسلمى الحبشة ما أسلم النجاشى. ولولا هجرة النبى إلى المدينة لماتت دعوة الإسلام فى مهدها. ولولا قبول أهل المدينة لهجرة النبى إليهم ونصرتهم له ما أصبح للمدينة المنورة هذا الشأن. ولولا الهجرة ما عرف سلمان الفارسى الحق وما وصل إلى النبى ونال وسام «سلمان منّا أهل البيت». ولولا الهجرة ما نال صهيب وسام «ربح البيع يا صهيب». ولولا الهجرة ما نبغ د. أحمد زويل ووصل لنوبل، ولو بقى فى مصر لقتلت البيروقراطية طموحه وعلمه. ولولا الهجرة ما وصل فاروق الباز إلى ما وصل إليه.
ولولا الهجرة ما وصل د. مجدى يعقوب إلى ما وصل إليه ولصار مجرد أستاذ جراحة يخوض الصراعات مع الكسالى ومحترفى الأسافين من عاشقى الإقصاء للنوابغ. ولولا الهجرة ما تعلم أمثال د. كمال أبوالمجد، د. أسامة الباز فى هارفارد. ولولا الهجرة ما نبغ الآلاف الذين أرسلهم محمد على لتعلم العلوم الحديثة فى أوروبا. ولولا الهجرة ما جدد الشافعى فقهه بعد أن انتقل من العراق إلى مصر. ولولا الهجرة ما وصل الأحناف إلى معظم آسيا وجنوب روسيا، وما وصل فقه المالكية إلى المغرب العربى والأندلس.
ولولا الهجرة إلى فرنسا ما أثر أمثال د. عبدالحليم محمود، ود. دراز، ود. الطيب، ود. مهنا، فى أساتذتهم وبلادهم وما جمعوا بين الأصالة والمعاصرة، وبين حسنات الحضارتين الإسلامية والغربية، فزادت تعدديتهم وتسامحهم وصوفيتهم عمقاً وتألقاً. ولولا الهجرة ما وصل محمد صلاح إلى العالمية ولظل يرزخ تحت وطأة أناس لا يعرفون سوى المحاباة. ولولا الهجرة ما عاش أبطال النضال الوطنى فى كل عصر.
الهجرة هى سنة الأنبياء وفطرة فى الإنسان والحيوان والأسماك.
الهجرة حياة وتطور وتفتح للعقول والقلوب على معانٍ جديدة، حتى تكاد تميز بين الأزهرى الذى لم يترك مصر وبين غيره الذى سافر للخارج مراراً، وبين القسيس الذى عاش حياته كلها فى مصر، وبين الذى ذهب إلى بلاد الغرب وعاش الديمقراطية والتعددية ومرونة الفكر وقبول الآخر.