بينما يرى علماء السّلوك والتربية الروحية «أن الروح هى مصدر الفاعلية لكل من العقل والقلب، فهى التى تُشرق بتجلياتها وأسرارها العلوية على خلايا الجسد فتنبعث الحياة! وتشرق على حُجيرات الدماغ، فينبعث العقل والإدراك! وتُشرق على عضلة القلب، فتنبعث العواطف والأحاسيس، وكأن العقل محله الدماغ وليس القلب»، نتساءل نحن: هل ما زلنا نسيطر على عقولنا ونتحكم فى قلوبنا؟! إنه سؤال الحاجة، والرجاء فى الوصول إلى يقين، وسط عاصفة عاتية تحاول اقتلاعنا من جذورنا بفعل ما نعايشه من ظروف ضاغطة، وأعصاب منسحبة، وأعمار تتساقط أوراقها لأسباب مختلفة. نتحرك بلا روح، تجذبنا الهموم مهما حاولنا الابتعاد عنها، تنتشر فى خلايا أجسادنا المنهكة، تتحكم فى العقل، وتُفرز هرمون الاختلال العقلى، من كثرة المشكلات والأزمات، ندور فى رحى لا ينتهى، دائرة مغلقة من الأفكار المشوشة تتأرجح فى دوامات الصراع مع الحياة.
فى بيوتنا مع أولادنا، فى العمل مع رؤسائنا، فى أماكن المصالح اليومية مع موظفين أنهكهم البؤس والشقاء، فسلب منهم أسلوب المعاملة الإنسانية الكفيلة بحل أزمات مستعصية، جدار شاهق من الصدام مع كل معطيات الحياة، علينا أن نتعلم صعوده بحرفية عالية دون أن نسقط أو نئن من ألم محتمل! وأن نحافظ على عقلنا من الشطط أو الانهيار أو ذهابه بلا رجعة.
أصبحنا حالة معقدة من التساؤلات التى لا تحمل الإجابات أو تركن إلى حلول؟. فهل السبب انهيار الثقافة المجتمعية؟ هل هو الانفتاح على الميديا؟ هل هو التباين فى مفهوم الأخلاق؟ هل التطرُّف فى الأفكار من النقيض إلى النقيض؟ هل غياب الوسطية والموضوعية فى تناول المشكلات والأزمات؟ هل افتقادنا للأمان؟ هل تعرّضنا للاهتزازات النفسية العنيفة؟ هل افتقارنا للاتزان والحكمة؟ هل صعوبة استرجاع حالة التصالح مع النفس التى غابت عن حياتنا منذ مدة طويلة؟ هل غياب الوعى والإدراك الإنسانى؟ هل التخلى عن المسئوليات الأخلاقية والمجتمعية؟ هل افتقارنا لثقافة الاختلاف؟ هل استخفاف الجيل الحالى بقيم وثوابت الأجيال السابقة والفجوة الكبيرة بينهما؟ هل هو صراع الأجيال واقتحام التكنولوجيا المخيفة عالمنا؟ ما السبب لما نحن فيه من اختلال عقلى وانعدام الاتزان النفسى؟!.
كيف للعقل أن يستوعب كل هذه الأسئلة الممزوجة بالعدم؟ كيف للإدراك التعامل بمنطق وكياسة دون أن يصيبه العطب؟ ليُسافر فى رحلة «التيه». «تيه» لا يعرف بداية ولا يصل إلى نهاية! فنضل الطريق. اختلفت علينا الثوابت، وازدادت مفاهيم القيم والأخلاق والاحترام اغتراباً بين الأجيال، كثرت الجرائم البشعة.. سرقة بالإكراه، سحل حتى الموت، تحرّش لفظى ومعنوى وجسدى رغم تغليظ العقوبة، زنا المحارم الذى تشيب له النواصى، «مهنة» احتراف الخداع والكذب، تفشى الرشاوى والفساد المالى والإدارى، اغتصاب الروح وانتهاك قدسية الجسد، امتهان حق الإنسان فى إنسانيته.
إنها على ما يبدو «سدرة المنتهى» تلك المرحلة التى نعيشها أنا وأنت وهو على الأرض، لم تستثنِ أحداً! لكنها نهاية كارثية لمرحلة تجاوزت حدود العقل والمنطق. لقد أثبتت الاكتشافات العلمية الحديثة أن القلب هو من يقود العقل، إذ إن تغيّر معدل ضربات القلب لدى الإنسان يؤثّر على مدى حكمته وعقلانية تصرفاته، وهى تشتغل جنباً إلى جنب مع عملية التفكير.
فقد أثبت العلم أن اليقين العقلى ليس حافزاً وحيداً للسلوك، وهناك من يعتقد أن فكر القرن العشرين يعانى أزمة، وأن أبرز صفات العقل فى هذا القرن هى تلك المحنة التى جعلته يشك فى أكثر مبادئه رسوخاً، وأشد بديهياته وضوحاً، ورغم أن هذا الاعتقاد يواجه اعتراضات شديدة يرى أصحابها أن الكلام عن هذه الأزمة غير ممكن، مستندين إلى أن العقل لم ينتصر فى أى عهد مثلما انتصر فى هذا القرن، فالعلم قد أحرز فى فترة وجيزة مكاسبَ تزيد عما أحرزه طوال تاريخه السابق، والفكر الفلسفى قد ازدهر وتنوَّع وازداد خصباً على الدوام، وربما كان الأهم من ذلك أن حياة الإنسان ذاتها قد أصبحت تُنظّم على أساس يستحيل تصوره بدون العقل، سواء كانت حياةَ الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو حتى حياته اليومية، ومع ذلك فإن الدراسات الحديثة تؤكد أن القلب يتحكم بالعقل أكثر مما كان يخيل للعلماء! صحيح أن العقل هو الذى يتحكم بأفعالنا، لكن وعلى ما يبدو حين يتعلق الأمر بالقرارات، فإن المصدر بيولوجياً، هو القلب! وحتى نتكيّف مع عقولنا علينا التمييز بين ما يمليه علينا عقلنا وما يشعر به قلبنا.