دعوات مقاطعة منتجات تركيا وفرنسا وما حولها من جدل، وما حولها من جدال وسجال ومعارك ومناقشات نستنتج منها الاستنتاج الأهم على الإطلاق، وهو ضرورة توفير البديل المصرى لكل المنتج الأجنبى إن استطعنا، بما يعيد مصر إلى سيرتها الأولى، التى كانت عليها قبل نصف القرن عندما كانت تنتج الكراسات المدرسية فى رومنى، والحبر والأقلام فى رينز، والورق فى راكتا، والمنسوجات فى المحلة، والزيوت فى طنطا للزيوت، والغزل فى المحلة وشبين ودمياط، والسجاد فى أسيوط، والسفن فى ترسانة الإسكندرية، والتليفزيونات الكاترون وتليمصر فى النصر للتليفزيون بكورنيش المطبعة فى المعادى وفى مصنع الهرم، والمكثفات أساس صناعات عديدة مهمة فى المراجل البخارية، والصناعات الغذائية فى قها وأدفينا وبسكو مصر، وأقوى وأفضل السلع الكهربائية والمنزلية فى مصانع الإنتاج الحربى بحلوان، والزجاج فى شركة الخزف والصينى، والأسلاك فى شركات الكابلات بشبرا وشارع بورسعيد، والثلاجات فى إيديال، وإطارات السيارات فى نسر، والأدوية فى شركات النيل والقاهرة وممفيس وسيد وفاكسيرا والجمهورية والمتحدة وجميع شركات قطاع الأعمال المملوكة لشعبنا، والفوانيس ولعب الأطفال ببركة الفيل بالسيدة زينب والحسين، والسيارات فى النصر ورمسيس، والكتان فى طنطا، وغيرها وغيرها وغيرها..
لماذا ذكرنا أسماء الصناعات والشركات السابقة؟ صراحة لاستفزاز الشعور الوطنى أكثر مما هو مستفز، ليتحول إلى طاقة كبيرة جداً تستلهم دروس الماضى والحاضر وتدرك أو تستدرك أننا لا ينقصنا شىء، وأننا كنا نسبق كل من سبقونا الآن، ولدينا القاعدة والتجربة والخبرات والخبراء، فيتبقى التخطيط.. وهنا يجب القول إن عدداً من الصناعات السابقة عادت بالفعل السنوات القليلة الماضية، مثل ترسانة الإسكندرية، التى افتتحها الرئيس السيسى عام 2015، وكذلك سيماف وقها وكيما أسوان وغيرها.
وهو ما يعنى أن قليلاً من التخطيط، وقد شرعت فيه الدولة فعلاً، يعيدنا إلى مكانتنا، ليس التى كنا عليها فقط، وإنما التى نستحقها ونتمناها ونتطلع إليها!
وللأمانة.. فقد كانت أزمة كورونا دافعة ومحفّزة لذلك، حتى إن الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء عقد اجتماعات مع المسئولين المعنيين بالأمر لبحث أمر توفير المواد الخام التى تدخل فى صناعات كثيرة جداً، وعندما تكون المكونات كثيرة لمنتج محلى يتم استيرادها من الخارج، تتسرب من بين أيدينا مكاسب كثيرة، إذ إن قيمة المنتج المحلى تنخفض لزيادة المكون الأجنبى فى مدخلاتها، وبالتالى نفقد مزايا عديدة.. وبالتالى فكل الأمل أن تدار الأمور بالطريقة الأمثل.. من خلال إدارة مباشرة من رئيس الحكومة أو من خلال لجنة أو بتكليف للسيدة وزيرة التجارة، أو بأى طريقة نقف من خلالها على مجمل الصادرات التى يمكن إحلال المنتج المحلى محلها، والبدء فوراً فى دراسة كيفية توفيره، بما يسمح بمكاسب كبيرة لا تبدأ طبعاً بتوفير فرص عمل، ولا تمر فقط بتوفير العملات الأجنبية، ولا تنتهى عند دفع عجلة الاقتصاد وزيادة حصيلة الضرائب، ولكنها أيضاً تصل إلى زيادة المنافسة، والأهم على الإطلاق إعلاء الروح الوطنية بوجود منتج محلى نتفاخر به ونتباهى بوجوده ونستغنى عن المستورد ونتحصّن إزاء أى أزمات طارئة قد تعزل دول العالم عن بعضها فى المستقبل، سواء كانت أزمة فيروس كورونا أو غيره!
لا يصح أن يكون فى أسواقنا وبلادنا فى رمضان القادم فوانيس ومسابح وسجاد صلاة غير مصرية وصناعات بلاستيكية وخفيفة يمكن توفيرها بالكامل فى مصر، كما أن صناعة زيوت الطعام تحتاج إلى وقفة، فلا يصح أن تكون هناك سلعة مهمة نستوردها بنسبة تتخطى حدود المعقول وتتجاوز الـ95%!! إذ يمكننا أن نتقبّل الرقم بالمعكوس كأن ننتج مثل هذا الرقم، ونستورد الباقى، بما يجعل القدرة كبيرة على امتصاص أى صدمات، والتعامل مع أى أزمات دولية، ولا نكون تحت رحمة أى ظرف!
ومنذ تولى الرئيس السيسى فى 2014 بدأت خطط طموحة لاستنهاض المشروعات الصغيرة والمتوسطة، بل والمتناهية فى الصغر، بلغت حد طرح مبادرة المائتى مليار جنيه.. ولأن حديث الأرقام وحده هو حديث الحقيقة، لذا ينبغى القول إن الخطط التى تابعها الوزير طارق قابيل، ومن بعده عمرو نصار، وصولاً إلى السيدة نيفين جامع، أسفرت عن أرقام مشجعة يحق أن يعرفها المواطن المصرى، حيث تقول الأرقام شبه التفصيلية إن عدد المشروعات الصغيرة مثلاً، ونستأذن القارئ العزيز الصبر على الأرقام، لكن هناك هدفاً من ذلك، فالمشروعات التى مولتها بعض المؤسسات والبنوك بلغت 402.863 مشروعاً بإجمالى 22.5 مليار جنيه وفّرت مليوناً و622 ألفاً و291 فرصة عمل، أما المشروعات الصغيرة التى تمّت من خلال الإقراض المباشر من خلال الجهاز فقد بلغ عددها 40 ألفاً و703 مشروعات بإجمالى 4.6 مليار جنيه وفرت 128 ألفاً و738 فرصة عمل، ليكون إجمالى الإنفاق على المشروعات الصغيرة 27.1 مليار، موّلت 443 ألفاً و566 مشروعاً وفرت مليوناً و751 ألفاً و29 فرصة عمل، أما مشروعات الإقراض المتناهى فى الصغر فبلغت 2 مليون و709 آلاف و646 مشروعاً بتمويل 15.6 مليار وفرت 3 ملايين و219 ألفاً و74 فرصة عمل، ليكون إجمالى المشروعات الصغيرة والمتناهية 3 ملايين و153 ألفاً و212 مشروعاً، وفّرت 4 ملايين و970 ألفاً و103 فرص عمل، ولذلك لم يكن التعامل مع تحدى البطالة عشوائياً أو من ضربة حظ للهبوط السريع بها من 14 إلى 7% قبل أزمة كورونا مباشرة!
ما معنى الأرقام السابقة إذاً؟ معناها ببساطة أنه وبخطة محكمة يمكن توجيه الصناعات الصغيرة والمتناهية فى الصغر إلى إنجاز الحلم المستهدف أعلاه من خلال تنسيق مجمل هذه الصناعات على الطريقة الصينية، لتتكامل فى ما بينها، وتؤدى إلى إنجاز صناعات مهمة بأقل تكلفة ممكنة -بنظرية الإنتاج الوفير- وفى أقل وقت ممكن بما يسهم أيضاً فى تقليل التكلفة، وبالتالى الحصول على سلع مناسبة بأسعار أقل تسمح بالمنافسة خارج البلاد وفى الأسواق الأجنبية، بل وفى أسواقنا الداخلية، فى حال وجود السلع المستوردة، حيث ستذهب تفضيلات المستهلك المصرى إلى المنتج المصرى ليس فقط بدوافع وطنية، وإنما لأسباب اقتصادية أيضاً!
فمثلاً.. مناطق ومحافظات فى مصر تنتج وتتخصّص فى فانوس رمضان وداخل المحافظة نفسها يتم تقسيم الفانوس نفسه إلى أجزاء، كل مدينة تتخصص فى قطعة منه، لتصل أخيراً إلى مكان التجميع فى مدينة ثالثة وهكذا.. وبهذا التخصّص وبهذا الذى يُسمى بـ«التقسيم الوظيفى للعمل» يمكن الوصول فى صناعات كثيرة لحالة الصين!
ليس مهماً متى سنصل؟، بعد عام أو عامين أو ثلاثة، المهم أن نبدأ ولا نتأخر والأرقام أعلاه -وهى حتى العام الماضى، ومؤكد أنها ارتفعت هذا العام رغم كورونا- مبشرة وفاتحة لشهية التخطيط والانطلاق!
الفرصة متاحة والأجواء مهيأة ولا نحتاج إلا إلى استثمار الأحداث الإقليمية والعالمية كخطوة إضافية للأمام تؤمن بأهمية الصناعة فى التنمية وفى وجود اقتصاد مستقر ومتماسك نُسيطر على مفاتيحه، وليس اقتصاداً ريعياً يتأثر إذا تأثرت أحوال التجارة العالمية، فتتأثر قناة السويس، أو يتأثر بتراجع السياحة أو انخفاض تحويلات المصريين! وإنما اقتصاد يعتمد فى الأساس أو على الأقل فى جزء منه على قاعدة متماسكة.. مستقرة.. عائدها على الأمة كلها!