لم يكن الإنذار الذى حصل عليه «أبوتريكة» فى كأس الأمم الأفريقية فى غانا ٢٠٠٨ حين رفع فانلته لأعلى ليظهر هذا الشعار «تعاطفاً مع غزة» باللغتين العربية والإنجليزية فى مباراة السودان مثيراً للاستنكار بقدر ما كان مدعاة للفخر، فقد كانت شجاعته وقتها محل فخر للشعب المصرى كله، وكان إنذاره الشهير وساماً على صدره استحق به لقبه الذى سيحمله للأبد «أمير القلوب».
لقد اعترض الاتحاد المصرى على كوفى كودجا الحكم الشهير، فـ«تريكة» لم يخلع فانلته بالكامل، ولكن حيثيات الإنذار فى تقرير الحكم كانت لاستخدام اللاعب شعاراً سياسياً فى ملاعب الكرة، مخالفاً بذلك تعليمات الاتحاد الدولى.
لم يتأثر المنتخب المصرى بإنذار «أبوتريكة»، بل إنه حصل على البطولة فى النهاية، والبطولة التى تليها، وحمل التاريخ إنذار «أبوتريكة» كمثال للشرف أكثر منه مثالاً للعقاب!
لم يذهب «أبوتريكة» للحرب مع أهل غزة ضد العدو الصهيونى، ولم يتبرع -علانية- بالمال والسلاح لمنظمة حماس، كما لم يستطع وزراء خارجية «مبارك» عبر ثلاثين عاماً أن يمنعوا أى اعتداء يقع على أهل هذا الإقليم المنكوب. لكن كلاهما «أبوتريكة» و«مبارك» استطاعا التعبير عن مشاعر المصريين المتعاطفة مع أهل هذه المساحة الصغيرة، مسقط رأس الإمام الشافعى، التى ينتمى أهلها للمصريين أكثر من انتمائهم لفلسطين نفسها.
لقد تحملت مصر عبر تاريخها مسئولية هذه القطعة الصغيرة من أرض فلسطين منذ عقود طويلة، ولم تتخلَّ عن تلك المسئولية التاريخية حتى فى أحلك الظروف، ففلسطين شريك فى عملية السلام منذ عهد الرئيس السادات، وجلوسها على مائدة المفاوضات فى كامب ديفيد كان شرطاً لمصر قبل أن توقع على الاتفاقية التى غيرت مجرى التاريخ فى المنطقة.
قد يختلط الأمر على البعض، فيظن أن الهجمات الإسرائيلية قد تضعف من قوة المنظمة الأكثر إثارة للجدل «حماس»، التى أصبحت تشكل تهديداً حقيقياً للأمن القومى المصرى، وفقدت قاعدتها الشعبية فى مصر بتأييدها للإخوان ورئيسهم المعزول. ولكن يبدو أن هذا الخلط قد انتقل كالعدوى إلى الحكومات، التى يبدو أن مشاعر «الشماتة» الصبيانية فى تلك المنظمة قد أنستهم أن من يدفعون الثمن هم أهل غزة البسطاء.
إن مشاعر التعاطف وبيانات الشجب والإدانة لن توقف العملية العسكرية الإسرائيلية، ولكنها قد تطفئ الغضب الشعبى تجاه العدوان على من يحملون نفس الهوية العربية ويدينون بنفس الديانة ويجمعنا بهم تاريخ طويل ومصير مشترك، خاصة مع تأكدهم التام أن تلك الضربات لن تؤثر على قوة تلك المنظمة التى تحكم هذا الإقليم -دون انتخابات- منذ ثمانية أعوام؛ فكلاهما إسرائيل و«حماس» مستفيد من وجود الآخر، بخلق ذريعة لكل تجاوز يحدث ضد أهل غزة، الذين كتب عليهم أن يدفعوا الثمن.
تستطيع الحكومة المصرية أن تحصل على إنذار مشابه لإنذار «أبوتريكة»، إنذار لن يمنعها من المضى قدماً فى مسيرة الإصلاح الداخلية، إنذار تضعه وساماً على صدرها، عن طريق حزمة من الإجراءات وردود الفعل ضد هذا العدوان، وتدويل القضية بصورة تحفظ بل وتعيد لمصر مكانتها الإقليمية والعالمية، بدلاً من بيان الخارجية الهزيل واتصال السيد الرئيس التليفونى!
تستطيع الحكومة المصرية أن ترفع شعاراً يليق بثورتين قامتا فى ثلاثة أعوام، ثورتين كانتا تطالبان بالكرامة الإنسانية.
تستطيع الحكومة أن تعلن تضامنها مع غزة، وليس مع «حماس».. أو كما قال «أبوتريكة»!