«١»
كانت المرة الأولى التى أزور فيها ملجأ للأطفال.. لم يكن عمرى قد تجاوز الخامسة عشرة.. ولكن المدرسة قررت أنها ستشارك فى الاحتفال بيوم اليتيم بأنها ستنظم رحلة «إجبارية» لملجأ الأيتام المجاور.
البعض من الطلبة انتهز الفرصة للهروب من الدروس المتتابعة.. السعادة كانت تطل من عيوننا جميعاً.. سنكسر الروتين الممل.
لقد قاموا بتوزيع الهدايا علينا لنوزعها على الأطفال.. تلك العلب المغلفة بورق الهدايا اللامع.. إنهم يعرفون أننا مقبلون.. الأطفال تلعب فى الفناء الذى انتُزعت حشائشه.. أقترب من أحدهم.. لا يبدو أنه قد اهتم بالهدية التى أحملها.. إنه يريد أن يجرى بأقصى ما يستطيع.. يبدو أنه اعتاد مثل هذه الزيارات التى تنبعث منها نظرات الشفقة التى يكرهها.. يقترب طفل آخر من خلفى:
- ممكن آخدها أنا؟
- طبعاً، كلكم ليكم هدايا حلوة خالص.
- طيب!
إنه لم يبتسم.. إنه لا يبتسم!!
زيارة اليتيم فى الملجأ تسعدنا بالفعل.. ولكنها غالباً.. لا تسعده!
«٢»
يقف هؤلاء الصبية صفاً واحداً.. تتناثر بينهم همهمات خافتة.. إنهم يخشون أن يعلو صوتهم فينهرهم المشرف الذى أتى بهم إلى المستشفى لتوقيع الكشف الطبى الدورى عليهم.. ابتسامة لزجة من المشرف وهو يمد يده إلىّ بالورق:
- عاوزين نخلص يا باشا، دول ٢٠ عيل.
أتأمل الاستمارات الخاصة بالأطفال المقبلين من الملجأ المجاور.. الصور كلها لأطفال دون العاشرة.. حليقى الرأس بالكامل!.. ترتفع عينى إلى هذا الرجل.. كيف يحمل كل هذه اللزوجة؟!
- طب هندخّلهم واحد واحد.
يتغير وجه الرجل، وتختفى الابتسامة من على وجهه.. يبدو أنه غضب لأن ابتسامته لم تأتِ بثمارها وتُنهى الأمر بصورة روتينية.. لكنه يجيبنى بـ«حاضر يا باشا».. ثم يرتفع صوته منادياً:
- يا أمير.. اقفوا صف واحد، واللى هنده عليه يدخل.. ومش عاوز اسمع صوت!
يدخل أمير.. ينظر إلىّ بخوف مشوب بالفضول.. يبدو أنه يسأل نفسه طوال الطريق عن شكل هذا الكائن المدعو بالطبيب.. يبدو أنه لم يتجاوز الثامنة.
أنتهى من توقيع الكشف الطبى.. فأداعبه بابتسامة عابثة.. الغريب أنه لا يبتسم مطلقاً.. أعرف من تجربة سابقة أن أطفال الملجأ لا يبتسمون!
- زى الفل يا أمير.. يللا اطلع وانده صاحبك اللى بعدك..
ينظر إلىّ فى صمت.. ثم يخرج دون أن يجيبنى.
أستمر فى عملى.. تكاد الاستمارات أن تنتهى من على سطح المكتب.
ملحوظة وحيدة دارت بخلدى: لماذا لا تلمع عيون هؤلاء الصبية؟!!
كيف يكون طفلاً.. ولا تلمع عيناه؟!
«٣»
تتكفل الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى الخيرية عادة بكفالة الأيتام وفاقدى الهوية فى دار مخصصة.. إنهم يوفرون لهم الحد الأدنى من المأكل والملبس.. وربما التعليم.. هذه حقيقة.. ولكن يبدو أنهم نسوا أو تناسوا أن الطفل يحتاج لتقويم نفسى فى نفس الوقت.. حتى يستطيع أن ينخرط فى المجتمع بصورة سليمة.
لقد اهتزت قلوب الملايين فى الأسبوع الماضى لمقطع فيديو يصور مشرفاً فى إحدى دور الرعاية وهو يضرب أطفالاً بقسوة شديدة.. وتم تصعيد الموضوع إعلامياً إلى أقصى درجة.. ولكن لم ينتبه أحد إلى أننا لم نرَ إلا القليل.. ما زال هناك الكثير تحت السطح.
نحتاج إلى دراسة مجتمعية مطولة.. وأبحاث نفسية عديدة.. لنستطيع أن نقوم بدورنا تجاه هؤلاء الصبية.. أو على الأقل لنجيب عن الأسئلة الغامضة: لماذا لا تلمع عيونهم؟ لماذا لا يبتسمون؟!