«مرحاً بالدنيا إذا اقتصر أنذالها على ثلاثة».
كذلك رد الشيخ على سعيد مهران -فى رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ- حين صرخ أمامه الأخير، وهو يحكى عن خيانة زوجته وصبيه «عليش سدرة» وصديقه الصحفى «رؤوف علوان» له، وأن الثلاثة تواطأوا معاً من أجل الدفع به إلى السجن والضياع. لحظتها ابتسم الشيخ وعلق عليه، قائلاً: «مرحاً بالدنيا إذا اقتصر أنذالها على ثلاثة».
تعليق حكيم وعميق ويمنحنا مؤشراً عن خطأ إنسانى شائع يتورط فيه البعض أحياناً حين يعلقون المشكلات الكبرى فى رقبة شخص أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر.
نمط التفكير هذا يعنى ببساطة أن الدنيا سوف ينصلح حالها إذا اختفت هذه الشخصيات.
فحال السياسة سوف يختلف إذا اختفى فلان وعلان، وحال الإعلام سينصلح إذا غاب هذا أو ذاك، وحال الاقتصاد سوف يستقر إذا خرج من السوق هذا أو تلك، وحال الفن سيتحسّن إذا تراجعت سيطرة النجم الفلانى أو العلانى على سوق الأعمال الفنية، وحال الخطاب الدينى سوف يتطور إذا اختفى هذا الداعية أو ذاك.
هذا النمط من الطرح، ناهيك عن طابعه الاختزالى، يضر أكثر مما ينفع، وهو بحال لا ينتج إصلاحاً فى الواقع، بل يُشخصن القضايا الكبرى المهمة والملحة، ويُحول النقاش حولها إلى سجالات استهلاكية لا تؤدى إلى تغيير ذى قيمة على مستوى القضية.
ما أسهل حل المشكلات لو كان السبب فيها شخصاً أو ثلاثة أو عشرة أو مائة. لو كان ذلك كذلك لهانت أى مشكلة وحُلت بمجرد أن تتخلص من هؤلاء الأشخاص.
المسألة أكبر من ذلك بكثير، والمشكلات داخل أى مجتمع هى جزء من تركيبته ولا حل لها إلا بالمعالجة الموضوعية.. وطريق المعالجة الموضوعية هو الطريق الصعب والأشد إرهاقاً والأكثر طولاً.
أكبر المصلحين فى التاريخ الإنسانى وهم أنبياء الله، واجهتهم آفة عدم الفصل بين الذات والموضوع.
فى قصة نوح عليه السلام، تجد أن قومه ضجروا منه وشق عليهم وجوده بينهم، ولم يفصلوا بين موقفهم الشخصى منه والطرح الموضوعى الذى يقدّمه «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ وَلَا تُنظِرُونِ».
الربط بين الشخص والموضوع كان حاضراً أيضاً فى سيرة بنى إسرائيل، وما أكثر ما ألهاهم التفكير فى الشخوص عن الالتفات إلى الموضوع. تجد ذلك فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا».
واللافت أن الله أرسل لهم نبيه موسى بعد سنين طويلة من وفاة «يوسف»، فلم يلتفتوا إلى ما يُقدمه من طرح، بل ركزوا فى الشخص وسماته وبنوا موقفهم بناءً على ذلك، فكان فرعون يُردّد فى مواجهته: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ».
وتكرر الأمر نفسه مع نبى الإسلام، صلى الله عليه وسلم، فقد كان المشركون يُردّدون: «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».
التصدى الحقيقى للمشكلات لا يعنى اختزالها فى شخص أو اثنين أو ثلاثة.. بل فى المعالجة الموضوعية الحقيقية لها.
ومرحاً بالدنيا إذا اقتصر أنذالها على ثلاثة.