أسوأ ما يواجه كل المهتمين برسم السياسات الصحية فى العالم كله هو فكرة حساب التكلفة للخدمة المقدمة.. التى أعتقد أن تصحيح بعض المفاهيم المتعلقة بها ينبغى أن يحظى بأولوية قصوى فى هذا التوقيت تحديداً.. خاصة بعد أزمة كوفيد اللعين، التى أبرزت أن حساب تكلفة الخدمة ينبغى أن يشمل، بجانب المستهلكات والأدوية، حساب الأجور للعاملين فى القطاع الصحى، بل والربحية إن كانت الخدمة تقدم من القطاع الخاص..
إشكالية كبيرة يقع فيها كل من يحاول أن يفتح هذا الملف الشائك.. فالرعاية الصحية حق تكفله كل دساتير العالم بلا استثناء.. والحصول عليها لا ينبغى أن يخضع لمعايير السوق التنافسية فى العرض والطلب.. ولا ينبغى أن ترتبط الإتاحة نفسها بما يمتلكه المريض أو ما يتمكن من الحصول عليه بماله الخاص!!
الأزمة برزت بشكل واضح فى الشهور الأخيرة مع انتشار فيروس كوفيد فى المجتمع المصرى.. وارتفاع تكلفة الخدمة فى المستشفيات الخاصة بعد زيادة الضغط على النظام الصحى الحكومى «منخفض السعة من الأساس».. الأمر الذى أدى إلى ظهور الكثير من الممارسات التى أقل ما توصف به أنها غير إنسانية بكل المعايير..!
الصورة يمكن قراءتها بشكل أوضح عبر تقرير مثير للاهتمام أصدرته شركة استثمارات طبية شهيرة تدعى «جونز لانج لاسال» منذ سنوات ثلاث تقريباً.. التقرير يفيد بأن القطاع الخاص الطبى فى القاهرة قد أصبح يستحوذ على ٧٣٪ تقريباً من المستشفيات والمراكز الطبية الموجودة بها.. التقرير نفسه يشير أيضاً إلى أن القطاع الخاص الطبى فى مصر يتركز جغرافياً فى العاصمة بنسبة تقارب الـ٨٠٪.. بالإضافة إلى تجارب قليلة فى بعض المدن القريبة منها..!
كل ما سبق أدى إلى اتساع الفجوة بين الإتاحة والاحتياج.. وأبرز مفهوماً جديداً لا ينبغى أن يستمر كثيراً فى مجتمع كمجتمعنا وهو مفهوم «تسليع» الصحة.. أو تحويلها إلى سلعة تخضع لقواعد العرض والطلب.. وتخرج الأمر كله من خانة التنافسية فى جودة الخدمة إلى خانة الحصول على أكبر ربح ممكن من كل مريض.. وهو أمر لا يمكن قبوله.. وغير قابل للاستمرار طويلاً دون تشوهات مجتمعية فى منتهى الخطورة!!
الدولة من جانبها تحاول بكل قوتها أن تسيطر على الأمر.. ليظهر مشروع التأمين الصحى الشامل ليصبح سلاحاً قوياً فى مواجهة هذا الخلل.. ولكن هل سينجح بشكل كامل؟!
هل سيتمكن مشروع تأمين صحى وطنى أن يقضى على تلك الأزمة.. فى ظل وجود كيانات استثمارية طبية كبيرة جاذبة للطبيب والمريض على حد سواء؟!
الإجابة تصبح نعم فى حالة واحدة.. هى توافر إرادة حقيقية فى تنفيذ المخطط الصحى المرسوم دون تراجع.. ووجود آلية واضحة لتنفيذه تحت مظلة تشريعية واضحة وكاملة.. تسمح للقطاع الخاص بهامش ربح ثابت يخضع للمتابعة والتقييم..
الاحتياج لمجموعة من التشريعات الجديدة التى تحكم القطاع الخاص فى الصحة قد أصبح ضرورة ملحة.. تشريعات يمكنها إعادة توزيع الخدمات الاستثمارية جغرافياً بشكل استراتيجى.. وتشريعات تسمح للدولة بالسيطرة على القطاع الخاص ليتحول إلى استثمار تنموى كما هو مفترض.. وليس بمفاهيم الاقتصاد مجرد استثمار استهلاكى..!
الحل يكمن فى التوقف عن دفن الرؤوس فى الرمال فى حساب التكلفة الحكومى.. متناسين معايير العرض والطلب على عناصر المنظومة من أطباء وصيادلة وتمريض.. وتقديم خدمة تنافسية بجودة مقبولة يمكنها أن تصمد أمام الخدمات الخاصة..!
إن القطاع الخاص شريك أساسى فى الرعاية الصحية فى كل دول العالم.. ولكن غياب الدور الحكومى فى العلاقة بينه وبين المواطن هو الإشكالية الحقيقية التى ينبغى أن تتم السيطرة عليها بأسرع وقت.. حتى تتوقف عملية «تسليع» الصحة.. أو هكذا أعتقد!!