يقول المحبون والعشاق والمتيمون والمفتونون إن ساكنى قلوبهم يستولون عليها ويسيرون بها على الطريق فيتألمون مع كل خطوة تبعدهم قليلاً، وأحياناً تصاب القلوب بجروح وخدوش أو أمراض، بخلاف آلام البعاد، وما أقساها وما أكثر صورها وأعراضها وآثارها الجانبية. وقد يغفل هؤلاء السكان الذين يستوطنون فيها عنها ويتركونها فى أماكن بعيدة، فيصيبها اليأس والخوف من ألا يعودوا لاصطحابها مرة أخرى، فتقتلها الوحدة والإهمال والبحث عن الونس وذلك الإحساس البغيض بأنه لا فائدة منها، أو بمعنى أدق أن احتياجهم لها قد انتهى وما عاد هناك لهفة للقاء أو انتظار لعناق أو كلمة تطفئ الأشواق أو احتفال لمناسبة مشتركة.
وعادة فإن هؤلاء المحبين ينتظرون الليالى القمرية التى يولد فيها الهلال، ليؤكدوا أنه يشبه صغارهم وابتسامتهم البريئة وشفاههم الوردية الناعمة، وعندما يستدير ويملأ السماء ضوءاً فضياً يؤكدون أن وجه الأحبّة صورة منه، بل قد ينافسه فى الإبداع والضياء. وعادة ما يتفننون فى الوصف والتشبيه والبحث عن أى موطن للجمال للحديث عنه. وإذا كان العاشق من أصحاب القلم، فإنه يكتب ويصف ويختار التعبيرات الراقية المعبّرة التى تترجم مشاعره ورقتها وقوتها وشفافيتها وفرحتها ووجعها وأحلامها، وقد تتحول تلك الأحاسيس إلى أغنية ترددها أجيال وراء أجيال، ويتهافت على سماعها كل مشتاق وكأنه يتناول جرعة دواء يعالج ويهدئ الآلام ويعيد الذكريات السعيدة إليه. أما إذا كان ممن يملكون الفرشاة والألوان ويخطون بأناملهم لوحات تتحدث عن الحب والحبيب والبحث عمن يغلق الأبواب حتى لا يتسلل منها الأعزاء فإنه يتفنن فى اختيار الألوان والخطوط المتوازية والمتقاطعة ليشكل اعترافاً وتأكيداً بأن هناك من غادر وابتعد وأخذ معه جزءاً لن يعود.
وعندما يتأكد المحب أن هناك أجزاء بُترت من قلبه فإن الدهشة تكاد تقضى عليه، فقد علّمته سنوات عمره وتجاربها ومعاركها العنيفة المؤثرة أن القلوب يصيبها العطب، فمنها ما يحتاج للدعامات لتعينه على القيام بعمله، والبعض يحتاج لتغيير شرايين وأوردة. وللعجب أن الأطباء يستبدلونها له بأخرى صناعية أو مستخلصة من حيوان، كما يحدث أحياناً أن يستعينوا بشريحة معدنية لضبط معدلات النبض وضغط الدم فى الشرايين التاجية والأورطى والأذين والبطين.. أما بتر القلوب فهذا أمر يتعجب له الجميع، لأن المصاب يظل على قيد الحياة رغم ما يُبتر منه، ويظل السؤال الأبدى الذى يتردد دون إجابة واضحة: كيف حدث ومتى، وهل تسببت تلك العملية فى فك الارتباط؟
وما أدراك ما الارتباط!! فقاموس المعانى الذى يفسر كلماتنا العربية ويشرح معانيها باستفاضة يقول إن الفعل (ربط) يعنى شد الحبل على شىء مرة واحدة أى أحكمه بربطة قوية، أما المصدر (ربط على) فيعنى استقرار وثبات وتمالك النفس، ومن تلك الكلمة تأتى رابطة ورباط الزواج والرباط العاطفى والمحبة، ومن عالم الطب والجراحات هناك الرباط الصليبى للنسيج المحيط بمفصل الكاحل أو مفصل المعصم. أما فى الحياة العسكرية فهناك موضع المرابطة مثل الحصن وغيره الذى يقيم فيه الجيش، أما رباط الخيل فهو مكان ربطها وإعدادها للجهاد. وهناك أيضاً رابطة الأم والقرابة وصلة الرحم. ولعل كل هذه المعانى الحميمة التى ينبعث من حروفها الدفء والمحبة هو ما دفع للأذهان استخدام لفظ الرابطة فى الجماعات التى تضم أبناء المهنة الواحدة مثل رابطة الخريجين أو رابطة الأدباء أو القراء أو الرابطة الإسلامية وغيرها كثير. أما نحن فسنظل رغم معرفتنا لكل تلك المعانى نبحث عن هؤلاء ونتمسك برباطهم ونتمنى لو لم ينفصلوا عنا يوم ميلادهم ونفكر أى نوع من الرباط سيعيدهم لنا.