حاصر المتظاهرون السفارة الإسرائيلية وكادوا يفتكون بأفرادها، غافلين عن قواعد القانون الدولى التى تؤكد حماية السفراء والقناصل حتى فى حالة الحرب، فما بالكم بالسلام، قواعد الإسلام تتوافق مع القانون الدولى فى تأمين الرسل «أى السفراء والقناصل وأسرهم».
كان موقفاً صعباً أمام المشير طنطاوى ولكنه أداره بحكمه، فأرسل سرية صاعقة أخلت أعضاء السفارة بأمان ونهاها نهياً قاطعاً أن تريق دماء أى مصرى فى رمزية وحكمة دقيقة لا تخفى على العقلاء.
مر هذا الموقف بسلام دون أن تتورط مصر فيما تورطت فيه إيران وثورتها بحصار مع السفارة الأمريكية ودون أن يريق دم مصرى واحد.
كان حصار وزارة الدفاع وبعض المناطق العسكرية مثل المنطقة الشمالية العسكرية اختباراً قاسياً لحكمة وصبر المشير طنطاوى.
فهذه أول مرة فى تاريخ مصر يحاصر فيه بعض أبناء الشعب المصرى قيادة جيشهم ورمز عزتهم وكرامتهم، لم يحدث هذا فى أى دولة متقدمة أو متخلفة، ولكن حدث الاختبار القاسى لحكمة وعقل وسياسة المشير طنطاوى.
كان أكثر المحاصرين من مجموعات حازم أبوإسماعيل و6 أبريل وثوار آخرين مع مجموعات من الاشتراكيين الثوريين مع همج رعاع من كل حدب، مع كثرة من التكفيريين الذين وجدوا فى حازم أبوإسماعيل قائداً لهم، ومعظمهم انخرط بعد ذلك فى المجموعات الإرهابية السيناوية.
تزامن حصار وزارة الدفاع مع حصارات سابقة للمنطقة الشمالية العسكرية، أمر ضباط وجنود الوزارة بعدم الاحتكاك بالمتظاهرين وأن يذيعوا القرآن الكريم، لكن ذلك لم يوقف سفاهات وتجاوزات بعض المحاصرين، أذاعوا بعدها بعض الأغانى الوطنية ولكن دون جدوى.
التزم الجنود والضباط الصبر رغم زيادة السفاهات والتفاهات حتى وقعت الكارثة بقيام مجهولين من المحاصرين بالصعود فوق شجرة وقنص شاويش من طاقم حراسة وزارة الدفاع، فصدرت أوامر المشير بإجلاء المتظاهرين بالصاعقة المصرية التى أجلتهم دون ذخيرة حية فى ربع ساعة وجعلتهم يطلقون الريح لأقدامهم.
المشير طنطاوى كان يردد دوماً مع كل من يعرفه «لا أريد دماءً، لا أريد أن أطلق الرصاص على مصرى».
حتى الآن لا يستطيع أى عاقل إيجاد مبرر لحصار وزارة الدفاع رمز مصر ومحاولة اقتحامها، إذا سقط هذا الرمز سقطت مصر، ولا يستطيع أى عاقل حتى الآن إيجاد مبرر من أى دين أو عقل أو سياسة أو منطق، يبرر حصار وزارة الداخلية ومحاولة اقتحامها مرات ومرات ومعها مديريات أمن كثيرة أشهرها مديرية أمن إسكندرية.
انهيار أو اقتحام وزارة الداخلية يعنى الكثير، يعنى التصريح لكل حرامى وكل بلطجى وكل تاجر مخدرات أو مجرم أو إرهابى أو تاجر سلاح أن يفعل ما يشاء، وأن تعود الثأرات فى الصعيد والقرى لتحصد الأرواح وتزرع الأحقاد من جديد.
لقد حدث الحصار اللامنطقى فى عهد اللواء منصور العيسوى الذى يعرف الجميع أمانته وعفته ونظافة يده ولسانه بشهادة الجميع، ورغم محاولات الاقتحام المتكررة منع استخدام الذخائر الحية ضد موجات الاقتحام والحصار.
كانت هذه بعض الامتحانات القاسية لحكمه «طنطاوى» الذى كان عبور قناة السويس بكتيبته 16 مشاة ومواجهة خط بارليف أمامه أسهل بكثير منها، إنه هنا أمام عدوه، ولكن فى الداخل أمام شعبه لا يريد إراقة دمه رغم أن مهنته وحرفته الحرب والقتال.
لقد عبر المقدم طنطاوى القناة فى 6 أكتوبر بكتيبته دون خسائر سوى شهيد واحد، وهذا معدل لا يحدث عادة فى الحروب خاصة أثناء عبور القوات لمانعين كبيرين أحدهما طبيعى والآخر صناعى.
المقدم طنطاوى عرفه المصريون والإسرائيليون معاً كبطل عظيم لملحمة كبيرة هى معركة «المزرعة الصينية» شرق القناة، وفيها حبست الكتيبة النيران أمام جحافل شارون المدرعة والمظليين الإسرائيليين معهم ثم فتحوا النار عليهم بعد أن دخلوا فى كمين محكم فدمرت دباباتهم وقتل مئات المظليين وخسروا خسائر فادحة، وكل من أرَّخ لحرب أكتوبر ذكر هذه المعركة الفاضلة ضمن مجريات حرب أكتوبر ومنهم المصريون والإسرائيليون، وذكرها شارون وديّان بالحزن والألم والحسرة، حتى رغب شارون بعد أن صار وزيراً للبنية التحتية فى إسرائيل مقابلة غريمه طنطاوى فى المعركة، وقد صار كل منهما وزيراً، فرفض طنطاوى إذ إنها كانت خارج السياق الرسمى، وقبِل مبارك ذلك ولم يعترض.
المشير طنطاوى الذى تسامح طويلاً مع متظاهرى ثورة يناير ورفض أن يطلق الرصاص الحى عليهم، وصبر طويلاً على حصارات ظالمة لمؤسسات سيادية يعتز بها وكان يردد «لا أريد دماً، لا أريد صداماً بين الجيش والمتظاهرين أو الشعب»، رغم خوضه لخمس حروب، هو نفسه الذى أمر ألا تمر دبابة إسرائيلية فى نطاق سرايا كتيبته فقال له أحد ضباطه «لن تمر دبابة من نطاق سريتى إلا على جثتى» وفعلاً استشهد النقيب محمد عبدالعزيز، وهو يضرب المظليين بمدفع مضاد للطائرات غيّر وجهته نحو القوات الإسرائيلية.
المشير طنطاوى كانت له تصورات جيدة لنقل السلطة توافق فيها مع معظم القوى المصرية، ولكنهم جميعاً خالفوا اتفاقهم معه لأنهم رأوا الربح العاجل والكسب السريع أمامهم ولكنهم جميعاً خسروا كل شىء.
لولا المشير طنطاوى لكانت هناك دماء كثيرة فى مصر، ودمرت معظم مؤسساتها السيادية الكبرى.
حدثت ثورة عارمة فى مصر سنة 2011 أعقبتها كوارث كبرى، ورغم ذلك لم تتوقف المدارس ولا الجامعات ولا البنوك ولا المؤسسات أو المواصلات والطرق، ولم يتوقف مرتب موظف واحد، هذا ليس باليسير رغم كل المظاهرات والمليونيات والوقفات والشطحات والاقتحامات.
الفارس الحقيقى للحفاظ على مصر فى الفترة العصيبة هو المشير طنطاوى الذى نحتاج لقراءة متأنية لمشواره ولعزوفه أيضاً عن السلطة، فقد رفض أن يكون نائباً لمبارك، كما رفض أن يستمر فى السلطة وزهد فيها.
أما أكبر حسناته بعد نصر أكتوبر فهى قيادته لأنزه وأفضل انتخابات رئاسية وبرلمانية فى تاريخ مصر الحديث كله، رحم الله المشير طنطاوى، ولا عزاء لمن يطمس بطولات الآخرين.