الدراجات فى هولندا ليست رفاهية أو رياضة يمارسها الأثرياء صباح يوم الجمعة. كما أنها ليست مبرراً للتحرش بالإناث والبحلقة فيهن، وربما نعتهن بأقبح الألفاظ لأنهن يركبن دراجات. بل إنها ليست مجالاً للنقاش: هل يذهب الأولاد إلى المدرسة بالدراجة، أم ندفع لهم الآلاف فى الباص، أو هل نذهب للعمل أو التسوق أو الترفيه بالسيارة أو المواصلات، أم بالدراجة؟ الدراجة فى هولندا قاعدة من قواعد الحياة اليومية.
هناك من باع سيارته لأنه تقريباً لا يستخدمها، ولأن إبقاءها يكلفه الكثير دون داعٍ. وهناك من لا يشترى سيارة من الأصل حتى لو كان يملك المال اللازم لها ويزيد. وما زال هناك من يمتلك سيارة لكن لا يستخدمها إلا فى حالات الطقس القاسى جداً أو ما شابه.
لكن تبوُّؤ هولندا مكانة الصدارة بين الدول المعتمدة على الدراجات وسيلة مواصلات رئيسية -فهى الدولة ذات عدد الدراجات الأكبر بالنسبة لنصيب الفرد من الناتج المحلى- لم يأتِ بين يوم وليلة، ولم يتحقق بقرار اتخذوه ذات صباح بأن يركب الجميع الدراجات، وإنما سبقه تخطيط طويل قوامه حماية أرواح قائدى الدراجات، بالإضافة لدراسات جدوى، ويتزامن معه دائماً سُبل تقييم وتصحيح وتجويد، بالإضافة إلى توقعات مستقبلية تهدف إلى الاستمرارية والاستدامة.
وما دام المواطن يؤمن بأنه إنسان عليه مراعاة الآخرين وليس نفسه فقط، وما دام يعرف أن هناك قوانين يتم تطبيقها وليست حبيسة الأدراج فقط، وحيث إن التقدم يقاس كذلك بسلوك أفراد المجتمع الذى لا يقوم على التناحر والمنظرة واستعراض العضلات، وما دامت هناك سُبل عقاب لمن يهوى كسر القوانين وخرق قواعد الأمان، فإن ثقافة قيادة الدراجة فى شوارع بالغة الضيق، جنباً إلى جنب مع سيارات وباصات وترام كهربائى ضخم، تقوم على الثقة فى القانون، ومعها (وربما قبلها) الثقة فى أن الآخرين يتبعون قواعد آدمية متحضرة فى حماية أمان وسلامة بعضهم البعض.
لم تستيقظ هولندا ذات صباح لتقرر أن الدراجات وسيلة مواصلات رئيسية. سبقها تخطيط شوارع وتقاطعات، وتدريب على قواعد القيادة والالتزاااااام بها (وإلا العقاب القانونى) منذ الصغر. ولأن فى قواعد الاستدامة نصف ضمان الاستمرارية، فإن قرارات وقوانين عدة تم سنُّها حتى لا تكون الدراجات صرعة وتروح لحالها. فمثلاً، منذ عشرينات القرن الماضى يتوجب على أى مبنى سكنى أو تجارى أو إدارى يتم تشييده أن يكون مزوداً بأماكن مخصصة لإيقاف الدراجات. ورغم تعرُّض الدراجات وثقافتها للاعتراض فى ستينات القرن الماضى ومطالبة البعض بترجيح كفة السيارات، فإن الدراجات وراكبيها خرجوا منتصرين من المعركة، فمساحة الأرض محدودة، والشوارع ليست شاسعة، والغالبية تعتنق فكر الحفاظ على البيئة.
فى الحضانات يجعلون أطفال ما قبل المدرسة يدفعون دراجات صغيرة بين الأشجار القصيرة. وبين الصفين الرابع والخامس يتدرب الطلاب والطالبات على قيادة الدراجات وقواعدها، فالمسألة ليست مجرد بدّال وحفظ توازن فقط. مرة أخرى، ما لا قواعد له، إما لا استدامة له أو أنه يتحول إلى خسارة وتخريب، وربما سفك دماء على الطريق.
وعلى الطريق تقابل قائدات دراجات فى السبعين من العمر، وربما أكبر، ولا تجد من يتفكه عليها: «إيه اللى انتى عاملاه فى نفسك ده يا حاجة؟!»، ومحجبات لا يخبرونهن أن الدراجة حرام، ورضَّعاً محمولين على الصدور والظهور، وأطفالاً فى سلة مخصصة لهم.
قيادة الدراجة بـ«هبل» يعاقب عليها القانون، كذلك عدم وجود أضواء، أو قيادتها على رصيف المشاة وغيرها. القانون سيد الموقف فى منظومة ركوب الدراجات القائمة فى هولندا على بنية تحتية ذات كفاءة وقبول مجتمعى رائع.