ليست هذه تباريح خاصة، ولا شكاية شخصية، وإنما قضية عامة بالغة الأهمية، ألممت بها حين دعتنى مسئوليتى عن زملائى المحامين للإطلال على تفاصيلها المؤسفة.. يدخل المحامى أو المحامية إلى المستشفى مُبتلى بجائحة الكورونا، فإذا بحساب المستشفى الخاص يقفز فى ثلاثة أيام إلى مائة ألف جنيه، وإذا بالمستشفى يحتجز المريض الذى هاله الرقم، والخوف ألا تستطيع النقابة الاستمرار فى تغطية هذه النفقات الباهظة، فيحتجزه المستشفى كرهاً ويمنع خروجه والفاتورة شغّالة حتى يتم سداد المبلغ الذى يزداد كل يوم بأرقام ضخمة أخرى بما يضيفه المستشفى إلى الفاتورة عن كل يوم من أيام الاحتجاز الإجبارى!
لقد ظننت فى البداية أن بعض المستشفيات يفعل ذلك وليس كلها، فطفقنا نبحث عن المستشفيات البديلة لتلك التى خرجت عن المعقول وعن كل الأعراف، فهالنا أن هذا ديدن كل المستشفيات الخاصة، وأن العدوى قد انتقلت إلى غير قليل من الأطباء، اللهم إلا أبناء المدرسة الطبية القديمة التى ظلت على وفائها لقيم الرسالة الطبية الإنسانية الرفيعة.
ليس كل مريض صاحب سقف رسمى أو مؤسسى أو نقابى للعلاج، تتكفل عنه هذه أو تلك بالعلاج أو ببعض تكاليف العلاج، فلم تعد ميزانية هيئة ولا مؤسسة ولا نقابة بقادرة على أن تتحمل هذه الفواتير الفلكية الضخمة، الغارقة فى كل صنوف الانتهازية والاستغلال، وابتداع الأساليب، وإن كانت مكشوفة لتبريره، لهذا الانحراف الخطير لتلك المستشفيات عن جوهر دورها الإنسانى، وتحولها إلى مشروعات تجارية صرفة لا تنشد إلا الربح الكبير المُغالى فيه جداً، بحيث توارت فيها الرسالة الإنسانية توارياً يكاد يكون تاماً، وفيما يبدو فإن وزارة الصحة بمؤسساتها لم تعد قادرة على التصدى لهذه المأساة!!!
لست أريد أن أعمم، فقد كان من حظى أننى على صداقة طيبة بكثير من الأساتذة الأطباء الكبار الخبراء فى كثير من التخصصات، وأُتيح لى فى التعامل مع عياداتهم أو مستشفياتهم أن أطل على أسلوبهم فى التعامل مع مرضاهم، وأن أرى من خلال ذلك صوراً إنسانية تفيض براً ووفاءً لرسالة الطب.. من هؤلاء من يقومون بعمليات تخصصية بالغة الدقة، فى العيون أو الشبكية أو القلب أو المخ أو العمود الفقرى، أو الأعصاب، أو الشرايين، أو الأذن والأنف والحنجرة.. من هؤلاء الأساتذة الكبار والخبراء فى تخصصاتهم من بقيت قيمة الكشف لديه على حالها تقريباً التى كانت عليها منذ عشرين عاماً، ومنهم أساتذة كبار لا يتقاضون للآن سوى خمسين جنيهاً للكشف، ومنهم من يكشف ويعالج حسبةً لله لغير القادرين، ومنهم من لا يزال يتقاضى فى أعقد وأدق الجراحات والعمليات ما يدور حول الخمسة آلاف جنيه، بينما يتقاضى تلاميذهم أرقاماً فلكية تُحسب بعشرات الألوف.
المؤسف أكثر أن من هؤلاء الأساتذة الخبراء الكبار، من اضطر هو نفسه إلى دفع تكاليف باهظة جداً، ناهزت الربع مليون جنيه، حين احتاج إلى إجراء جراحة، فلم يرحمه المستشفى الخاص، ولم يرأف به تلميذه الذى أجرى له العملية. وإن نسيت فلن أنسى أن صديقاً عزيزاً من كبار الأساتذة فى تخصص دقيق، تخرجت على يده أجيال فى كلية الطب التى يدرس بها على مدى أكثر من خمسين عاماً، فلما احتاج لتركيب دعامات فى الشرايين التاجية، تقاضى منه المستشفى الخاص مائتين وخمسين ألف جنيه، وتقاضى تلميذه ستين ألف جنيه أتعاباً له، وإن نسيت فلن أنسى أحد هؤلاء الأساتذة الخبراء الكبار، دفع فى جراحة عظام لأخته خمسة وثلاثين ألف جنيه، وفشلت الجراحة، ووجب إعادتها لتصحيح خطأ مَن تقاضى خمسة وثلاثين ألف جنيه، واضطر صديقى الطبيب الكبير أن يدفع للجراح التالى خمسة وأربعين ألف جنيه مع أنه من تلاميذه، وخمسة عشر ألف جنيه لطبيب التخدير، وزادت المدفوعات على مائة ألف جنيه كلفته من أمره رهقاً!
إننى، وعفواً للحديث عنى، لا أتقاضى أى أجرٍ على الإطلاق عن كل مؤلفاتى وكتبى ومقالاتى وأحاديثى المرئية والمسموعة، وأجعل هذا حسبة منذ خمسين عاماً للوفاء برسالة أرى من واجبى أن أنهض بها، كما تدخل حالة الموكل وقدرته فى تقدير الأتعاب إلى حد قبول قضايا بالمجان، وأكتب أمامها فى إقرارى الضريبى «جنيه واحد على سبيل التذكار»، حتى لا تظن الضرائب أننى أخفى قضية اضطلعت بها.
ظنى أن المال ليس كل شىء فى الحياة، بل وللمال وظيفة اجتماعية لا ينبغى أن تتوه عمن أعطاهم الله البحبوحة والثراء. فالثراء امتحان وابتلاء، سقط فيه كثيرون وفشلوا وأخفقوا فلم ينفعهم المال، ونجح فيه قليلون ذاقوا حلاوة الإحساس بأداء الواجب وتسخير المال ليكون خادماً للإنسانية لا سيفاً مسلطاً عليها!
ما زلت أذكر الطبيب العظيم الدكتور محمد مشالى، الذى توفى منذ شهور، فانتفض الآلاف حزناً وأسىً لوفاته، حيث استبان أنه كرَّس حياته فى عيادته بحى شعبى فى طنطا لعلاج المرضى من الفقراء والمحتاجين.
عاش حياته فى طنطا، مكرساً كل علمه ووقته بل وحياته لعلاج الفقراء والغلابة على التخصيص، رافضاً قبول تبرعات عُرضت عليه بملايين الجنيهات، أو تجهيز عيادة فاخرة له فى أشهر شوارع طنطا، فهو يستمتع متعة حقيقية بعطائه لهؤلاء المحتاجين تغنيه عن أموال وزخرف الدنيا، هذا الهرم بالغ التواضع الذى كرَّس حياته لعلاج ملايين المصريين من المحتاجين الذين لا يقدرون على تكاليف الكشف والعلاج والأدوية، حتى إنه كان يعطى الدواء من عيادته لغير القادرين. علمت أن سبب هذا المنعطف المهم فى حياته، أنه فى مستهل خدمته فى إحدى القرى أتته أم بطفلها يبكى بكاءً شديداً، فلما أراد تهدئته وسأله عما يبكيه كل هذا البكاء، أجابه الطفل بأنه طلب من أمه حقنة أنسولين لإنقاذه من مضاعفات السكر الذى ينهشه منذ طفولته، ولكن الأم لا حيلة لها! لو اشترت الحقنة فلن تستطيع أن تشترى لهم الطعام!
استقر الدكتور مشالى بهذه الإنسانية الفياضة فى قلوب الآلاف، حياً وميتاً!!
فما الذى جرى ويجرى من بعض المصريين الآن؟!
وأين ولّت قيم عشناها وعاشت بها مصر لمئات السنين؟!