كانت هناك مخبرة شريرة فى ليمان طرة اسمها «رضا».. وكانت تعامل زوجات وأمهات المعتقلين معاملة سيئة.. وكان لسانها سليطا ولا يتوقف إلا بشرائه بعشرين جنيها أو يزيد.
وكانت هناك مخبرة أخرى أصغر منها اسمها «شادية» وكانت رحيمة بالزوجات والأمهات فى التفتيش ومحبوبة من الجميع لأخلاقها وتسامحها وخدمتها للجميع.
وفى يوم من الأيام زار شخص معنا أحدَ المعتقلين الوافدين من السجون الأخرى وكان قليل العلم والثقافة.. وكان معه ابن صغير حاولت «شادية» ملاعبته وممازحته والسلام عليه فرفض بإباء وقال لها: «أنت من الظلمة الطواغيت».. فهالها ما سمعت من هذا الطفل الصغير، فقد تعودت منا ومن أولادنا وأسرنا حسن المعاملة ورقتها.. فقلت للطفل وكنت بجوارهم: «هذه طنط شادية، طيبة تحب الناس جميعا، ولم تظلم أحدا».. ولكن الطفل أبى أن يغير موقفه.
فاختليت بأبيه وقلت له: «الحب هو الأصل.. والكراهية هى الاستثناء.. وعلينا أن نعلم الطفل الأصل وهو الحب.. وحينما يتضلع من الحب ويتشربه قلبه ويكبر سنه وتنضج ملكاته، سيدرك من يستحق الكراهية لأنها استثناء من الأصل».
وقلت له: «لو أحب من لم يستحق الحب فهذا لا يقدح فيه.. أما لو كره من يستحق الحب فهذا سيكون ذنبا دينيا واجتماعيا».
ورغم بساطة الموقف فإنه شغلنى طويلا، وكان ذلك منذ قرابة عشرين عاما، وقلت يومها لتلاميذى المعتقلين فى أحد الدروس التى أعقبت هذا الموقف بأيام: «على الدعاة أن يعلموا تلاميذهم الحب.. فيحبوا كل الناس.. فالدعوة إلى الله هى حب فى الأساس.. حب لله وحب للدين وحب للناس جميعا.. ومن لم يتضلع قلبه بالحب ولم تتشربه نفسه فإنه لن يستطيع أن يبذله للآخرين أو يزرعه فى قلوبهم.. وعلى الداعية أن يكره المعصية والكفر.. ولا يكره العاصى والكافر.. ويكره الظلم والفسوق ولا يكره الظالم والفاسق.. وإلا فكيف يستطيع أن يدعوه ويقبل عليه؟»، ولو زرعنا فى تلاميذنا الكراهية للعصاة والمذنبين والمقصرين لكرهوا الكثير من المسلمين.. فإذا أضيفت إليها الكراهية للاتجاهات السياسية المناوئة للإسلاميين مثل الاشتراكيين والليبراليين واليساريين لاتسعت القائمة.. فإذا أضيف إليها قائمة المنافسين من الإسلاميين مثل الصوفية والأشاعرة والجماعات الإسلامية الأخرى التى لا تعجب طريقتها أو منهاجها شيوخهم وأساتذتهم، لضاقت الدنيا على هؤلاء التلاميذ بما رحبت.. ولامتلأت قلوبهم بالكراهية لكل شىء.. والغضب على كل هؤلاء.. ومحاولة إزاحتهم بأى وسيلة.
لقد توزعت مشاعر أبى هريرة بين حق نبيه العظيم وحق أمه التى تتطاول على مقام النبوة.. فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذى يكره الكفر لا الكافر: «اللهم اهد أم أبى هريرة»، فذهب فوجدها تغتسل وحدها وتشهد الشهادتين.
وموقفه (صلى الله عليه وسلم) من الصحابى الذى شرب الخمر أكثر من خمسين مرة فلعنه البعض.. فغضب المعصوم قائلا: «لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله»، تفريقا بين المعصية والعاصى.. وقد كان أبوحامد الغزالى صاحب الإحياء أول من ركز على مثل هذه المعانى.
يا أحبتى: ليس هناك أقوى من الحب لنشر دعوة الإسلام.. فالحب أقوى من كل جيوش الأرض.. وأفضل وسيلة لتنفير الناس من الإسلام هو زرع الكراهية لنجنى جميعا المر والحنظل.
ازرعوا الحب أولا وقبل كل شىء لأنه الأصل.. ازرعوا الحب وثقوا أن الكراهية سيئة فلا تتعجلوها.. ازرعوا الحب قبل أن تأتى الكراهية لتملأ القلب كله فلا يجد الحب له مكانا فى القلوب.