هذه مقدمة لا بد منها. البيئة الشعبية المعضَّدة من قبَل قاعدة عريضة من رجال الدين والحاضنة لثقافة «تكريم» المرأة فى مصر الحديثة تقوم على نقاط، أبرزها: الأنثى سواء صوت أو صورة أو كيان عورة. وكلما تحملت عدداً أكبر من طبقات الأقمشة، وكلما قتمت ألوانها، حظيت بالاحترام فى الشارع. والأنثى خُلقت فى الأساس لإمتاع الرجل جنسياً، لذلك فإن وجودها فى الفضاء العام بأى صورة من الصور يؤجج الشهوات ويشعل الرغبات ويشعلل النزوات لدى الذكور، وبالطبع هم لا حول لهم ولا قوة، والحل الوحيد هو زيادة عدة الطبقات. ولأن الغرض الآخر من الأنثى فى الفكر الشعبى المصرى الحديث المعضَّد بمواقف رجال الدين يتعلق بالتكاثر، فهى تلد ولا تبيض، وعليها خدمة سكان البيت من الذكور، لذلك كثيراً ما تفقد بهاءها وتخسر قدرتها على إمتاع الرجل، وبالتالى عليها أن ترضى بضرة واثنتين وثلاث، ويكفيها فخراً أن الرجل مستمر فى إطعامها وكسائها. وكسر نفسها أو جرح الكرامة أو أى من صغائر الأمور هذه إنما تعكس وهن التدين. وحين «تمتنع» المرأة عن زوجها فى الفراش لأن كيلها طفح أو لأنها باتت تكره حياتها أو لأنها لا تريد العلاقة فى تلك اللحظة أو أى من هذه الأسباب «التافهة» التى ترقى بها إلى مرحلة الإنسان والعياذ بالله، فإن الملائكة تلعنها وتغضب عليها. وتخبرنا ثقافتنا الحديثة أن الأنثى التى ترتدى ملابس «الكفار» التى كانت السائدة فى مصرنا الحبيبة فى أربعينات وخمسينات وستينات وجانب من سبعينات القرن الماضى تستأهل ما يحدث لها، ناهيك بالطبع عن «جهاد» التحرش والاعتداء بالنظر والقول واللمس وربما الاغتصاب لردع هؤلاء اللاتى يتشبّهن بـ«كفار» مصر فى القرن العشرين.
وقائمة مكونات الثقافة الشعبية السائدة الخاصة بالأنثى والمعضدة من قبَل رجال الدين طويلة ولا تخفى على أحد. ومن ينتقدها أو يلمح إلى أنها تزدرى الأنثى أو تتعامل معها باعتبارها كائناً يسير على اثنتين لكنه أقرب إلى الكائنات التى تسير على أربع، فهو دون شك «علمانى كافر» أو «يزدرى الدين» أو «يعادى المتدينين» أو «يتشبّه بالزنادقة والملاحدة ويدعو إلى العرى والفسق والفجور».
لذلك أتعجب كثيراً من أولئك المتعجبين اليوم من حديث القفة أو الحلوى والذباب أو السيارة المفتوحة وراكبها. فهذا حديث دائر منذ ما لا يقل عن خمسة عقود. هذه العقود الخمسة كانت كافية وكفيلة بأن تغسل أدمغة الملايين، رجالاً ونساءً كبروا وترعرعوا فى هذه البيئة وأنجبوا صبياناً وبنات وربما أحفاداً وحفيدات وورثوهم الفكر نفسه والثقافة ذاتها.
لماذا إذاً نتظاهر اليوم بأننا مصدومون ومتفاجئون من تحول جريمة ذبح طالبة المنصورة إلى جدل فقهى شعبى حول الحجاب؟ مَن الذى فتح آذانه وقلبه وعقله ورحب ترحيباً رهيباً بمدرسة ازدراء المرأة المصرية؟ ومن الذى روّج لهذا الازدراء باعتباره الدين الحق؟ ومن الذى ترك هذا الفكر يرعى فى أرجاء المحروسة؟ ومن الذى ترك المجرمين من المتخصصين فى اتهام المغتصبة والمقتولة والمذبوحة والمعتدى عليها بأنها السبب فيما تعرضت له لأنها لم تحجب نفسها بالطبقات وهى تعلم أن الذكر ليس إلا شهوات؟! ومن الذى تجاهل أثر هذا الفكر على الذكور الذى رسخ لدى الكثيرين منهم أنهم ليسوا إلا شهوات مسلوبة الإرادة، وفى هذا تحقير وازدراء لإنسانيتهم وهم لا يعلمون؟! ما نحن فيه توقعات مرئية منطقية.