الكاتب والروائى الكبير خيرى شلبى -رحمه الله- من المبدعين الذين يجيدون دمج خبراتهم ومشاهداتهم الشخصية فى كتاباتهم الروائية، ولا عجب فى ذلك فالرجل كان صحفياً موهوباً وباحثاً تاريخياً مدققاً. وقد استوقفنى فى روايته «نسف الأدمغة» إشارتان سريعتان إلى شخصيتين تستحقان التأمل، بما يعيدنا من جديد إلى الحديث عن الشخصيات المغبونة.
تطرّق الكاتب الكبير إلى شخصية الفنان الراحل «إبراهيم حمودة» وهو - كما تعلم - واحد من كبار مطربى عصر ما قبل الثورة وأحد نجوم السينما فى ذلك العهد، وكان ملء السمع والبصر حينها يعرفه كل عشاق الفن فى مصر. وما كان أكثرهم حينذاك.
يحكى خيرى شلبى فى رواية «نسف الأدمغة» موقفاً مأساوياً عاشه الفنان إبراهيم حمودة أواخر أيامه، يبدو أن الروائى الكبير عاينه بنفسه واستدعاه فى أحد مشاهد الرواية يصف فيه مأساة الإنسان حين يضطر إلى تعريف نفسه للآخرين فى نهاية مشواره، يقول «شلبى»: «أنا فعلاً جربت مثل هذا الموقف، خاصة أن صاحبه كان فى زمنه ملء السمع والبصر، إنه المطرب إبراهيم حمودة الذى لعب دور البطولة الغنائية أمام أم كلثوم فى بعض أفلامها وكان من مطربى الدرجة الأولى. شفته بنفسى فى أواخر أيامه وهو يضطر إلى تعريف الناس به ممن يجلسون معه على المقاهى».
شارك إبراهيم حمودة أكبر نجمات السينما المصرية بطولة العديد من الأفلام التى تشكل علامات فى تاريخها، شارك ليلى مراد فى فيلم «شهداء الغرام»، وكوكب الشرق أم كلثوم فى فيلم «عايدة»، والفيلم الأخير واحد من أفلام أم كلثوم التى لم تلقَ نجاحاً لدى الجمهور، وسبّب أزمة كبيرة لـ«الست»، توترت خلالها علاقتها بالعديد ممن شاركوها هذا العمل، سواء بالتلحين، مثل محمد القصبجى، أو بالغناء مثل إبراهيم حمودة.
فى الوقت الذى كان نجم الكثيرين والكثيرات من النجوم والنجمات يزداد لمعاناً، كان نجم «حمودة» آخذاً فى الأفول، حتى نسيه الناس تماماً، وتعقدت رحلته فى الحياة أكثر بعد إصابته فى حادث سيارة، اختفى على أثره تماماً من الحياة الفنية، وبات يهيم على وجهه من مقهى إلى مقهى، وفى مواجهة تجاهل الناس له، وعدم معرفتهم لشخصه كان يدور عليهم ويخبرهم بأمره ويقول: أنا إبراهيم حمودة، والناس تنظر إليه بإشفاق وأحياناً بسخرية.
إبراهيم حمودة واحد من فنانين متعددين انتهت حياتهم بابتلاءات وأوجاع لا تنتهى. عاشوا النجومية وتمتعوا بالمال والنفوذ ردحاً من الزمن، ثم أدارت الدنيا ظهرها لهم، ولم يرحمهم مَن حولهم، وعانوا أشد المعاناة من تجاهل حتى من يعرفهم.
عاش إبراهيم حمودة منذ منتصف الستينات وحتى عام 1986 منزوياً مغبوناً ممن حوله، يتجرّع مأساته فى كل لحظة، حتى كرّمه الرئيس الراحل أنور السادات رحمه الله، وبعدها عاش بضع سنوات، حتى لقى وجه ربه، لتلخص رحلته غدر الحياة بالإنسان، حين تصعد به إلى أعلى عليين فى فترة من عمره، ثم تنزل به إلى سابع أرض فى فترة أخرى، فيتلاشى ذكره وهو يدب فوق الأرض، ثم يختفى من فوقها وكأنه لم يفت عليها.. دنيا.