- اسمك إيه يا عم الحاج؟
- جرجس ميلاد يا بيه.
- ألف سلامة يا «حاج» جرجس.. خير، بتشتكى من إيه؟
لم يجد كلانا -أنا وهذا المريض العجوز- أى غرابة فى الحوار.. فهو يدور بشكل شبه يومى.. سواء معى أو معه.
هو.. تعوّد أن يلقّبه الناس الذين لا يعرفونه بـ«الحاج»، ذلك اللقب الذى تبرع المصريون ومنحوه لكل من تجاوز الستين من عمره، حتى لو لم يشاهد الكعبة إلا على شاشات تلفازه وقت الأذان فقط.
وأنا.. تعودت أن ألقّب كل مرضاى كبار السن بالحاج! لم أشعر يوماً أن الأمر يحتاج لأن أعرف ديانة هذا العجوز!!
ابتسمت من داخلى بعد أن أدركت أن حوارنا به شىء ما غير منطقى. وتذكرت لوهلة طفولتى التى ما زلت أذكر فيها صديقى الأقرب بحكم كوننا فى نفس السن، وأن أهلينا أصدقاء.
كان أشرف وعادل هما كل أصدقائى لفترة طويلة. كنا نلعب ونأكل بل وننام معاً، سواء فى منزلى أو منزلهم، حتى بدأت أدرك أن هناك شيئاً ما مختلفاً بيننا.. لماذا لا يذهب هؤلاء الصبية مع والدهم لصلاة الجمعة مثلى؟!
وفى مرحلة الدراسة الجامعية، وكان «مارك» قد انضم إلى شلتنا المشاغبة، ما زلت أذكر نظرته البائسة وهو يلهث عطشاً قبيل أذان المغرب فى رمضان، حيث كان يصوم معنا «بالأمر»، حتى إنه صرّح لنا برغبته فى اعتناق الإسلام فقط حتى يكسب ثواباً من هذا الصيام بدلاً من الجوع والعطش الذى بلا طائل.
كم كنا أوغاداً!!
حتى الشعور الذى تشعر به فى أول أيام دراستك الجامعية تجاه أول فتاة تقع عليها عيناك بعد سنين من الحرمان فى فترة الإعدادى والثانوى تحطم بعد أيام قليلة فى حالتى -ومذكرات كثيرة تم تصويرها لتلك الفتاة- بعد أن شاهدت هذا الصليب الذى أطل من يدها اليمنى!
«لماذا لا ترتدى صليباً على رقبتها.. إحنا هنهرج؟!»
وبرغم اكتشاف هذه الحقيقة، ومع كل سخرية أصدقائى وقتها، لم نكن نشعر بأن هناك فروقاً جوهرية بيننا!
حتى بعد ما رأيت من تطرف مجتمعى، والذى بدأ يزداد تدريجياً حتى وصل أقصاه فى الأعوام الأخيرة مع تزايد الأحداث فى مجتمعنا الهادئ، لم أشعر أيضاً بأننا لا ننتمى إليهم.. ولا ينتمون إلينا!
«تهنئة الأقباط بعيدهم حرام شرعاً»!!
كانت صدمتى كبيرة وأنا أستمع إلى هذا الشيخ الذى لا يحمل من مؤهلات الإمامة إلا لحيته!! من قال هذا؟!
فى أى دين هذا الذى تقول؟
ما الذى سيخسره الدين أن أدخل السعادة على قلب جار أو صديق بتحية وتهنئة فى عيده!!
إن المجتمع المصرى له نسيج خاص لن يفهمه هؤلاء الشيوخ الذين يطلون علينا من عالم آخر، ولا هؤلاء المتطرفون الذين يلقون علينا أيضاً بالقاذورات من العالم الغربى بحجة حماية الأقلية المسيحية!!
نسيج تشعر به.. ولا يمكن شرحه.
حاولوا كثيراً أن يلعبوا لعبة الفتنة الطائفية معنا.. ولكننا والحمد لله شعب لا يجيدها.. حتى الآن!
تذكرت فجأة عم «وليم» البقال الذى يقع محله بجوار منزلنا، والدكتور «صمويل» الذى أجرى لى عملية استئصال اللوزتين وأنا فى الرابعة من عمرى.
تذكرت هتاف الأفراح الشعبية الشهير:
«موسى نبى.. عيسى نبى.. محمد نبى.. وكل من له نبى يصلى عليه».
تذكرت كل هذا وأنا أتأمل وجه هذا العجوز الطيب.
ثم أفقت من كل هذه الذكريات على صوته مستنكراً:
- مش هتقيسلى الضغط يا دكتور؟!
- ارحمونى!!.. أنا دكتور مسالك بولية يا حاج.
آه وبالمناسبة.. كل سنة وانت طيب.