فى مثل هذه الأيام من شهر نوفمبر، تتوافق ذكرى وفاة والدتى الكريمة، رحمها الله، فقد وافتها المنية فى نوفمبر سنة 2011، كانت أمى نموذجاً فريداً فى كل شىء، فى عبادتها وصلاتها، فى صيامها وقيامها، فى حكمتها وعقلها، فى حُسن سياسة بيتها وزوجها وأولادها، فى صبرها وتحمّلها، فى كرمها وجودها، فى حبها للناس، كل الناس، فى إحسانها للفقراء، فى حسن رأيها ودقته، فما قالت لى رأياً وقلت غيره إلا وصدق الزمان والأحداث رأيها.
كانت متصالحة مع زمانها والكون كله، كانت حكمتها وتقديراتها تنحدر من إخلاصها وتنبثق من نور الله الذى يضىء قلبها، كان تديّنها أفضل من تديّنى، كان أصفى وأنقى وأعمق وأسمى من تدينى، كان يركز على الجوهر وفقه المآلات وفقه المصالح والمفاسد، دون أن تقرأ شيئاً عن هذا الفقه، ولكن نور القلب والضمير أضاء لها جنبات هذه الحكمة فظهرت جلية لها.
تديّن أمهاتنا القدامى كان تديّناً حقيقياً، أما تديّننا فكان مغشوشاً، تغشاه المظاهر، ويحب الغلبة والشهرة، أما تديّن أمى وأشباهها من جيلها فهو أشبه بالتديّن الفطرى الذى ماتت عليه عجائز نيسابور، والذى تمنى إمام الأئمة أبوحامد الغزالى أن يموت على ما ماتوا عليه، بعد شهرته كأعظم عالم فقه وأصول وتربية فى العالم الإسلامى كله، الذى خاض آلاف المناظرات الفكرية والفقهية، هذه خلاصة عمره وأعمارنا أيضاً.
أمى قصة كفاح لا حدود لها، كفاح لم يهدأ أبداً، كنت أنا فصلاً من فصولها، وكان شقيقى «أ. صلاح»، الذى عَبَر القناة فى حرب أكتوبر 73 وأصيب فى الضفة الشرقية فصلاً آخر، مات لها فى حياتها ثلاثة من أبنائها، أحدهم مات صغيراً، والآخر كان الأول على المحافظة فى الابتدائية، والثالث كان مشروعاً لعالم وأديب لم تُعنه ظروفنا على ذلك، مات الثلاثة خلال فترات متعاقبة وهى تغالب الصبر وتمزج الدمع المشروع بالأمل فى الله أن ترسو سفينة أسرتها إلى بر الأمان، والحمد لله لم تمت حتى حقّقت معظم أمانيها.لم أجد شيئاً أقدّمه وفاءً لها وردّاً لبعض جميلها سوى أن أهديها حج بيت الله الحرام، كانت رحلة رائعة جعلتنى أخلو بربى وبأمى أيضاً قرابة الشهر كما لم يحدث قبل ذلك ولا بعده.
كانت أمى غاية فى الحكمة، فقد تأخر شقيقى الأكبر وزوجته فى الإنجاب فترة طويلة وصلت إلى 11 عاماً، يقول شقيقى «أ. عزت»: كل هذه السنوات لم تتدخل أمى فى حياتى، ولم تسألنى يوماً ولا زوجتى هل ذهبتم للطبيب؟، لماذا لا تذهبون للطبيب فلان؟، لم تجرح مشاعرنا يوماً، قابلت ذلك بالصمت والدعاء، لم تقل لى يوماً طلق زوجتك أو تزوج غيرها، أو تزوج عليها، فى الوقت الذى تتدخل فيه الحموات فى هذا الأمر من الشهر الأول للزواج ولا توجه الأسئلة لابنها، بل للزوجة المسكينة، وكأنها وحدها السبب فى الأمر.
كم سمعت فى عيادتى الآهات والآلام المكبوتة لهؤلاء الزوجات اللاتى لا يجدن حيلة ولا طريقاً للرد على الأم التى لا تمل من هذا السؤال كلما التقت زوجة ابنها.أمى كانت نموذجاً فريداً لم تتدخل فى حياة أحد من أبنائها، ولم تفرض نفسها يوماً على زوجة من زوجاتهم، ماتت وهى تنثر الورود طوال حياتها على كل من حولها.
كان مرتب أبى فى الخمسينات أربعة جنيهات، تنفق على بيت فيه سبعة أفرد، كان المرتب ينفد منذ اليوم العاشر من الشهر، فيكتفى البيت ذاتياً بحُسن إدارة هذه الزوجة والأم الحكيمة.كان بيتاً كبيراً واسعاً فيه من خيرات الله الكثير، بيت مملوء بالدجاج والبط والحمام والأرانب، فيه غرفة الخزين فيها كل أنواع الخبز والسمن والعسل والكشك والشعرية البلدى والجبن.
كانت أمى رغم صغر سنها الذى لم يجاوز الـ15 عاماً تُحسن سياسة جدى وجدتى، كان جدى تاجراً ثرياً فى بداية حياته، غدر به آخرون من كبار القوم فكسدت تجارته وكان ذا هيبة وقوة، وكان أحياناً يضرب أبى وأمى معاً، ورغم ذلك صبرت حتى وافته المنية، وصابرت جدتى التى كانت دوماً تفخر بحسبها وأصلها وتعلمت منها الكثير، وتعلمنا منها الكثير، وساعدت أمى على تربية أولادها.
أى زوجة من بنات اليوم تطلب الطلاق أو تهجر البيت مع أقل مشكلة مع زوجها أو حماتها أو حماها أو تدهور مستوى زوجها المالى، بيوتهم تخرب سريعاً لأنهن لا صبر ولا علم ولا عقل عندهن، لم نكن نعرف كلمة الطلاق فى بلادنا فى فترة الخمسينات والستينات والسبعينات بل والثمانينات، لكن الطلاق اليوم بلغ معدلات مجنونة، نصف الرجال الآن غير مسئولين، وبعضهم حشّاش، وبعضهم لا يحب العمل.
تخيل أماً صغيرة السن نسبياً تجهز سبعة أولاد مرة أخرى للذهاب للمدرسة، تشطيف، إفطار، لبس، بحث عن الكراسات وما أدراك ما هذا الأمر، أمى فين كشكولى، أمى فين أقلامى، فين كتبى، وهى تدور كالنحلة بينهم، كلهم يتحرك مبكراً للسير على قدميه للمدرسة، لم تكن هناك مواصلات، كنت أسير قرابة 3كم حتى أصل إلى مدرستى الثانوية العسكرية، كان التأخير عن الطابور جريمة لا تُغتفر، ثم يعود الجميع فيجد الطعام جاهزاً، أم تكافح فى بيت موظف متوسط الحال بمقاييس زمانهم، لا تملك بوتاجازاً ولا غسالة ولا ثلاجة ولا تليفزيوناً ولا شيئاً ييسر الحياة مع أولاد يعشقون لعب الكرة فى الشارع لتتسخ ملابسهم النظيفة فوراً.
رغم رحمتها ورقّتها لم تكن تتسامح فى الدراسة والتفوق أبداً مع أولادها، فقد غاب شقيقى الأكبر «أ. صلاح» عن المدرسة فى الابتدائية عدة أيام، فإذا بها تجبره على كنس ومسح السلم، قائلة له: هذا مصير من يترك الدراسة، وهذا هو البديل لها، فرأى الأمر أشق من الدراسة والمدرسة، فعاد إلى صوابه، ولو أن أبى وقتها وقف خلفه لكان طبيباً مميزاً، كما هو الآن كاتب متميز وأديب رائع، وكان بطلاً مغواراً فى حرب أكتوبر.
سلامٌ على أمى فى العالمين، سلام على الأمهات الفاضلات بما أعطين ومنحن الحياة للدنيا كلها، وليس لأولادهن فحسب.