• دخل عيادتى، له هيبة وجمال، وكأنه جنرال سابق، أبيض، طويل، جميل الخلقة، عملاق الجسم، ما زالت آثار الشباب عليه رغم اقترابه من السبعين، رحبت به وعرفت أنه كان يعمل مساعداً أول فى المطافى.
• قلت له: هذه أخلص مهنة تعطى دون مقابل، ولا يكاد يعرف بطولاتهم أحد، قال: نعم، أكثر لقمة حلال فى الدنيا كلها هى مرتب رجال المطافى، فلا مغانم فيها ولا جاه ولا برستيج، وكلها تضحيات فقط، صدقت على قوله.
• تنحدر أصوله من الرحمانية بمحافظة البحيرة وهى بلاد مشهورة بالجمال والقوة.
• أردف: لقد واجهت النار والموت ثلاثين عاماً كاملة، استشهد أمامى العديد من قادتى وزملائى الكبار الذين اقتحموا الموت بجرأة وشجاعة.
• قال: التحقت بإدارة الحماية المدنية قسم المطافى وأنا شاب قوى جداً، أول كلمة قيلت لى فى بداية التدريب: أكثر مرتب حلال فى مصر هى مرتباتكم، نحن نضحى باستمرار وبلا توقف، نواجه النار بصدورنا، أنتم فى رسالة عظيمة، لا تنظروا إلى أى مرتب، فهو لا يساوى مواجهة النار والموت مرة واحدة، مهمتنا إنقاذ الأرواح والأموال والمنشآت، نحن لا ننتظر مكافأة من أحد ولا كلمة ثناء، فنحن نطفئ شققاً ومصانع ومتاجر وننقذ أرواحاً وأسراً لا تجد لديها فرصة لشكرنا، فهم فى مصيبة كبيرة لا تجعلهم يلتفتون لأحد.
• يحكى الصول البطل محمد أحمد بروح جميلة: لا نترك كارثة فيها حريق إلا ونحن فى الأمام، حرائق وتصادم القطارات، انهيارات مبانٍ، حرائق سكنية، حرائق مصانع، نحن جاهزون باستمرار وبلا توقف، نحن أسرع ناس فى تجهيز سيارة الإطفاء، دقيقة واحدة من انطلاق الجرس تكون سيارة الإطفاء والإنقاذ جاهزة للانطلاق.
• سألته: فلماذا تتأخر سيارات الإطفاء؟ قال: التأخير نتيجة تأخر البلاغ أحياناً، فأصحاب الحريق يكونون فى ذهول لا يدرون ماذا يفعلون، وعادة ما يقوم الجيران أو الأهل بالاتصال بعد قرابة ربع الساعة، ونحن دائماً جاهزون، ولكن المصيبة فى ازدحام الطرق فى المناطق العشوائية بإشغالات الطريق والباعة الجائلين وضيق شوارع المناطق الشعبية العشوائية، فنضطر لإيقاف السيارة بعيداً ومد الخراطيم.
• سألته: ما هو أخطر شىء على رجل المطافى؟ قال: الاختناق بالدخان وهو سبب وفاة الضحايا وكذلك رجال الإطفاء، ولذلك نستخدم أحياناً أسطوانة أكسجين.
• أما الخطر الآخر فهو تهدم المبنى على رجال الإطفاء بعد الإطفاء لأن الحديد يسخن ويسيح فتسقط الأعمدة، وأنا أخذت دورة فى هذا الأمر، وأذكر أن لواء شرطة أصر على تفقد مبنى بعد الحريق فحذره العميد الذى يقودنا وحذرته كذلك وكنت أقدم صول فى الإدارة ولكنه أصر على الدخول فى المبنى واستشهد تحت حطامه.
• قلت له: إذاً الحماية المدنية والمطافى لها علوم دقيقة؟ قال: نعم، علومها ودوراتها كثيرة وصعبة، وتحتاج لخبرة طويلة، وقد مكثت عمرى كله فى هذا العمل، وكان يضرب بى المثل فى الشجاعة والإقدام وشاركت فى إطفاء كل الحرائق الكبرى بالإسكندرية وظل يعددها واحدة تلو الأخرى.
• قلت له: هل قدمتم شهداء؟ قال كثيرون بدءاً من الجندى والشاويش وحتى اللواء، مروراً بضباط من كل الرتب، عملنا كله تضحيات، ليس فيه برستيج، ولا هيلمان، ولا فلوس ولا بقشيش ولا أى شىء، اقتحام للنيران، سير بين الأنقاض، انتشال الناجين والمصابين وإخراج الجثث، نحن أبطال المهام الصعبة، ومعظمنا ينطق الشهادتين بمجرد خروجه من منزله لأنه لا يضمن عودته إلى أولاده مرة أخرى.
• قلت له: التاريخ يذكر أن مؤسستكم أقدم مؤسسة فى الشرق الأوسط؟ قال: كل الدول العربية والأفريقية كانت تأتى وأنا شاب لتدرس دورات المطافى والحماية المدنية عندنا، وضباطنا مشهورون جداً، ويكفى اسم اللواء الشهيد ياسر عسر الذى دخل النيران بنفسه لإنقاذ الناس فى حريق محطة المترو بالقاهرة، لواء وكيل إدارة لم يقف ليتفرج، وكل حريق كبير يستشهد فيه زملاء لنا.
• قلت له: كيف تعيش حياتك؟ تحسر وتنهد حتى كاد يبكى حزناً، قال: أنا شبه سجين ومريض وأحتاج إلى مفصل صناعى لأننى لا أستطيع الحركة، ولكن الأطباء يرفضون لأننى لا أتحمل هذه الجراحة الكبرى، فضلاً عن انزلاق غضروفى فى خمس فقرات قطنية، لقد كنت فى شبابى مثل الأسد والآن أصبحت هكذا أتحرك بصعوبة وأحضر لعلاج جلدى لديك كل عام تقريباً.
• قلت له: أنت إلى الآن فى ريعان شبابك وجمالك رغم تجاوزك للسبعين، فقال مازحاً: أين الشباب؟!
• ودعته راجياً له السعادة والكرامة والعافية كما وهبها من قبل للآلاف مضحياً بنفسه.
• لا أذكر أن أحداً يدعو لمثل هؤلاء الرجال لا قبل الحرائق ولا بعدها، الامتنان قليل بين الناس.
• تنهد مودعاً: أحتاج الدعاء بالصحة والعافية والقدرة مرة أخرى على الحركة، فالعجز أكبر المحن.