العالم منشغل هذه الآونة بقضايا تختلف قليلاً عن «حكم زواج المجنون» (مع تحفظى الشديد على استخدام كلمة مجنون)، وجمع كلمة «بؤبؤ»، ومدى جاهزية الشعب للأغنية الجديدة التى سيطرحها محمد رمضان، وحكم بيع الأدوية المغشوشة.
كما أن العالم، الغارق فى آثار حرب روسيا فى أوكرانيا، وهى الآثار الممتدة والمتوقع لها الاستمرار وربما التفاقم مع هوجة إرسال الدبابات والأسلحة الثقيلة لدعم أوكرانيا أمام روسيا مع التزام دول الغرب بعدم المواجهة المباشرة مع روسيا والإبقاء على فتيل الحرب مشتعلاً دون تدخل مباشر، لا يملك من رفاهية الوقت أو رغد الجهد ما يمكن تخصيصه لشن حرب عنكبوتبة على فلان بهدف تشويه سمعته أو تخصيص ميليشيات «تويترية» أو «فايسبوكية» لشغل الرأى العام بقضايا من شأنها إحداث الفتنة وبث الإحباط واليأس.
أتابع الجهود العاتية المبذولة بغرض توجيه جزء من الرأى العام، وذلك من قبل أفراد غارقين فى أيديولوجيات يفترض أنها أمور شخصية وانتماءات واعتقادات لا تقدم أو تؤخر فى مسيرات الأمم، واعتناقها وكأنها قضية حياة أو موت. أتعجب كثيراً مثلاً من أشخاص يخصصون جل وقتهم وكل جهدهم من أجل الولولة على الأسعار والنحيب على الأوضاع.
من حق الكل أن يولول وينتحب، لكن حين يكونا الهدف والغاية فى حد ذاتهما، فهذا ينبئ بخلل ما.
وحين تجد الباقين غارقين فى البحث والتنقيب عن رأى رجال الدين فى تلصص المرأة على «موبايل» زوجها (وماذا عن تلصص الرجل على موبايل زوجته؟)، وحكم بيع الأدوية أو البضائع المغشوشة (يفترض أن يكون هذا سؤالاً موجهاً إلى علماء القانون وخبراء الصحة وفلاسفة الأخلاق)، والملابس التى سيرتديها محمد رمضان فى الكليب الجديد وغيرها من شئون الغرق، فإن مواطن الخلل تستدعى فهماً ما.
ولو كان العالم كله غارقاً فيما نٌغرِق فيه أنفسنا بكامل إرادتنا لكان الأمر هيناً، ولقلنا إنها سمة بشرية وطبيعة إنسانية.
لكن حين تجد جانباً من العالم يتحدث عن الهيمنة العنكبوتية من قبل شركات التكنولوجيا ومنصات الـ«سوشيال ميديا» على توجهات سكان الأرض وقراراتهم مثلاً، وذلك عبر تطبيقات وخوارزميات تقوم بعمليات توجيه المستخدمين دون أن يشعروا بأنهم خاضعون للتوجيه، وأن البعض بدأ ينتبه لذلك ويبذل الجهد والوقت لنشر الوعى بالتقنيات الآخذة فى توجيه سكان الأرض بكل سهولة ويسر دون بروباجاندا زاعقة أو حملات إعلامية أو إعلانية مباشرة، فإن هذا يستدعى منا بعض التعقل.
الأرقام تقول إن نحو 72 فى المائة من المصريين يستخدمون الإنترنت، وأن نصف الشعب يستخدم منصات الـ«سوشيال ميديا». ورؤى العين تقول إن نسبة معتبرة من هؤلاء «يعيشون» على الـ«سوشيال ميديا».
بالطبع هناك من يعيش على «السوشيال ميديا» بمعنى التكسب من ورائها، سواء من يسمون أنفسهم -أو هم بالفعل- «انفلونسرز» أو مؤثرين، أو يعرضون نشاطاً من طبخ ولبس ونصائح (بعضها مميت لأنك قد تجد خريج سياحة وفنادق وقد نصب نفسه خبير تنمية بشرية قائمة على القص واللصق من فكر آخرين)، لكن هناك من «يعيش» على هذه المنصات بالمعنى الحرفى للكلمة.
أعرف أصدقاء يكادون لا يبرحون مواقعهم أمام الشاشة. يدونون ويغردون ويتناقلون «انشرها بالله عليك الله يرحم والديك» ويرسلون بـ«المنقول» (والذى هو عبارة فى الأغلب عن سموم مكتومة أو أكاذيب لا أساس لها من الصحة أو أخبار حدثت قبل عشر سنوات ويتم تداولها على اعتبار أنها حدثت الآن، وذلك على مدار ساعات الليل والنهار.
وأتعجب، من أين يأتى هؤلاء بهذا الوقت والجهد. المؤكد أن كثيرين يقومون بعمليات الهبد العنكبوتى فى أثناء ساعات العمل الرسمية، وهذا يتناقض مع فيض الأسئلة عن الكبيرة والصغيرة الموجهة لرجال الدين وكأن الجميع ملائكة بأجنحة تهفهف وترفرف فى سماء الفضيلة والأخلاق.
كيف لك يا أخى المؤمن ويا أختى المؤمنة أن تهدر وأن تهدرى وقت العمل فى الغوص العنكبوتى؟!وبعيداً عن الوقت والجهد المهدرين، وبعيداً عن الميل الشديد لنشر البؤس والظلام والإحباط والتراجيديا، سواء كانت مستحقة أو غير مستحقة حتى أصبحوا كمن يصيح «الذئب الذئب» ففقد البؤس معناه، فإن المطلوب ليس هجر السوشيال ميديا أو الحجر على طريقة استخدامها أو تخصيص خطبة الجمعة القادمة لـ«كيف تستخدم السوشيال ميديا؟» أو حرمان أحد من التعبير عن رأيه أو حتى من هواية الهبد والرزع والمفيدة أحياناً كأداة تنفيس.
المطلوب قليل من التفكير قبل أن نهب حياتنا وفكرنا ووقتنا وجهدنا لوهم وخيال يتم بيعه لنا أو تسويقه أمامنا وكأنه اختيارات وهو توجيه واستلاب للعقل والوقت والجهد.
فى عالم آخر غير عالمنا، يبحثون فى هيمنة الجغرافيا السياسية على الفضاء بمعناه الفعلى، أى فضاء الكون من كواكب ونجوم، وكذلك يدرسون هيمنة الجغرافيا السياسية على الفضاء الرقمى والسيطرة على البشر بنعومة وسهولة ويسر وهو قابع أمام شاشته معتقداً أنه سيد قراره العنكبوتى، وهو أبعد ما يكون عن ذلك.