أجواء المناورات التى أحاطت مرحلة تشكيل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لوزارته اليمينية المتطرفة لم تولد فقط من رحم قصور تاريخى فى استيعاب طبيعة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، بل مثلت أيضاً آخر محاولات التشبث بالسلطة، حتى إن طغت هذه الرغبة على خطورة الهاجس الأمنى الغالب على تركيبة الشخصية اليهودية والتى شكلت جزءاً أساسياً من عقيدة دأبت على تصديرها للعالم عبر عصور التاريخ.
مفادها غلبة الأمن على الاعتبارات السياسية والديمقراطية، والعمد إلى تهويل هذا الهاجس جغرافيا وتاريخيا في ظل وجودها بين دول معادية! عقب الاقتحام الوحشى لمخيم جنين من القوات الإسرائيلية، وما تبعه من ردود فعل مقابلة فى مستوطنة نبى يعقوب وبلدة سلوان، خرج تصريح من إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومى «إن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر على هذا النحو».
تعبير الوزير اليمينى المتطرف لا يتجاوز الكلمات كونه فى التطبيق الفعلى يندفع نحو واقع ممارسات متطرفة ستزيد الوضع اشتعالاً بدلاً من تحديد حلول جذرية كفيلة بتحقيق مطالب الطرفين الفلسطينى والإسرائيلى.
إسرائيل تريد اللعب بورقة الهاجس الأمنى بعد تجريدها من الضوابط الحاكمة لتحديد الكلمة.. خلط مسارات غير قابلة للالتقاء بين تحقيق الأمن وتراكمات القمع الوحشى للطرف الآخر - الفلسطينى - وهذه أثبتت عبر عقود أنها لم ولن تمنح إسرائيل فردوس الأرض الموعودة، بل إنها ستقابل بالمثل.
حسابات إسرائيل أنكرت حقيقة أن الدخول فى مثل هذه الصراعات الممتدة يصعب فيها تحديد نوعية أو مساحة أو توقيت الضربات وعدد ضحاياها.هى تصر على التغريد بعيداً عن تركيبة الشخصية الفلسطينية، خصوصاً بعد تقاعس المجتمع الدولى عن عدالة قضيته.. لعل أدق ما ينطبق على الفلسطينيين حالياً كلمات المتنبى: «أنا الغريق.. فما خوفى من البلل».
وهو ما تؤكده أبرز الإشارات عن منفذى عمليات بنى يعقوب وسلوان ظهور وجوه غير معروفة للأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، لم تشارك مسبقاً حتى فى رمى حجر.. جميعهم فى مقتبل العمر بين 21 و13 عاماً.
كل الوعيد والقرارات عن الردود القاسية من مسئولى إسرائيل وإجراءات تسليح المستوطنين قطعاً سيزيد من اشتعال العنف، خصوصاً أن تاريخ أغلب سكان المستوطنات من المتطرفين اليهود ممن يغلب على سلوكهم ممارسات وحشية ضد الفلسطينيين، ما يهدد بتحول هذه المستوطنات إلى طرق موت أو ساحات حرب شوارع.
على الصعيد الداخلى، عمّقت الأحداث الأخيرة الانقسامات السياسية داخل البيت الإسرائيلى وهو العامل الأساسى الآخر الذى يهدد أمن واستقرار إسرائيل.. تحقيق منظومة أمنية صلبة لا يقاس بمساحة الكيلومتر المربع ولا بضخامة العتاد العسكرى حين يكون على طبيعة أرض لا تفصل بين مواطن فلسطينى وإسرائيلى سوى أمتار قليلة.
على مدى عقود، أجهضت إسرائيل كل المبادرات لتحقيق المعادلة الوحيدة التى تضمن كسر الهواجس الأمنية الإسرائيلية واحتواء ردود الفعل المشروعة من الجانب الفلسطينى.
تمادت فى مسار الحلول القمعية والعسكرية التى ستزيد من دوامة العنف والدماء.. قابلت كل الحلول السياسية والدبلوماسية بالتجاهل. مصر بذلت -وما زالت تبذل- كل الجهود لتفعيل هذا الدور تحديداً خلال القمم بين رؤساء وملوك دول المنطقة أو عبر التحركات الدبلوماسية ونجاحها فى التوصل إلى صيغ تهدئة عقب كل انفجار للموقف فى الأراضى المحتلة.
تبنى مصر للمسار السياسى كحل وحيد بالتأكيد ينطلق من رؤية منطقية لا بديل عنها لتحقيق السلام فى المنطقة.
أزمة المشهد السياسى الإسرائيلى تتمثل فى افتقاد حزب أو كتلة تملك شجاعة الدعوة إلى مراجعة الفكر الأمنى الإسرائيلى حول جدوى تغليب حلول القمع وتكثيف العمليات العسكرية التى ستسفر عن المزيد من الخسائر للطرفين.. خسارة أحدهما - الفلسطينى - وهو أصلاً ليس لديه ما يخسره، فى مقابل فشل أمنى وسياسى للطرف الإسرائيلى نتيجته البقاء داخل دائرة العنف وعدم الاستقرار.
أخيراً.. وقوع نتنياهو فى أسر مطالب شركائه المتطرفين فى الحكومة مقابل نجدتهم له من محاكمة يواجه فيها تهم فساد والإذعان لقراراتهم لن يضمن له البقاء على رأس حكومة مستقرة.. بل هو بمثابة إعلان حرب ستكون تداعياتها كارثية على كل الأطراف.