أستعير لهذا المقال عنواناً لمقال رائع نشره فى هذه الجريدة قبل أيام الصديق العزيز معتز بالله عبدالفتاح. «بنتنا ماتت»، هذا هو الشعور السائد بين كثيرين لم يعرفوا شيماء الصباغ ولم يسمعوا عنها من قبل. البعض منا لا يفهمون لماذا حدثت كل هذه الضجة على مقتل شيماء الصباغ. دعك ممن يحملون الضحية مسئولية موتها عندما يتساءلون عن السبب الذى دعاها للخروج للتظاهر، فهؤلاء رغم البدلة ورابطة العنق لا ينتمون لمصر الحديثة التى نحاول استكمال بنائها مسترشدين بتعاليم المصلحين العظام، من أمثال رفاعة الطهطاوى وقاسم أمين، الذين دعوا لتحرير المرأة، ومستلهمين تراث هدى شعراوى ورفيقاتها اللاتى تظاهرن ضد الاحتلال البريطانى قبل مائة عام. منتقدو الشهيدة شيماء الصباغ بسبب خروجها للتظاهر هم من المنافقين الذين يحتفلون بمشاركة النساء فى مظاهرات ومسيرات تأتى على هواهم، لكنهم يرفعون رايات الرجعية والجمود الاجتماعى عندما يخرجن للتعبير عن موقف مخالف لهم.
يندهش البعض من ردة الفعل الغاضبة لمقتل شيماء الصباغ، قائلين إن فى الأمر مبالغة شديدة، فالضحية فى النهاية هى حالة واحدة لا تستدعى كل هذا الصخب. يقولون إن ردة الفعل الغاضبة لمقتل شيماء، فيما يكون الصمت هو سيد الموقف عندما يموت آخرون كثر، فيه تحيز وتحزب واضح. يشكك هؤلاء فى دوافع الغاضبين لمقتل شيماء الصباغ عندما يتهمونهم بعدم الاكتراث لمقتل العشرات من الضباط والجنود وهم يكافحون الإرهاب.
هذا النوع من المحاجاة بغيض لأنه لا يساعد على بناء الوطن ونظامه السياسى. قد تقنع آراء هؤلاء بعض الناس أو حتى أغلبهم، لكن هذا مكسب قصير الأمد محدود القيمة، ولن يكتشف هؤلاء الأثر بعيد المدى لموقفهم هذا حتى يقرأوا فى كتب التاريخ والتحليل السياسى بعد سنوات كيف أن مقتل شيماء الصباغ كان إحدى المحطات الفارقة فى تطور الأزمة السياسية فى مصر.
ردة الفعل الغاضبة لمقتل شيماء الصباغ تدل على أن كثيرين فى هذا البلد يشعرون بصلة ما تربطهم بالشهيدة. شيماء الصباغ سيدة شابة من نساء الطبقة الوسطى الحديثة من أهل المدن فى مصر، والكثيرون من أبناء هذه الطبقة يشعرون بالتماهى مع شيماء لأنها منهم، تماماً كما شعروا قبل سنوات بالتماهى مع خالد سعيد الذى أصبح إحدى أيقونات ثورة يناير وروافعها المحركة رغم أنه لم يكن من الثوار. هناك بعد طبقى فى مسألة التعاطف مع شيماء الصباغ، كما كان الحال من قبل مع خالد سعيد، وهذا ليس عيباً، فالطبقات الاجتماعية إحدى حقائق الحياة والمجتمع، ونقص الوعى الطبقى فى مصر -وليس التعاطف مع شيماء الصباغ لدوافع طبقية- هو إحدى المشكلات التاريخية التى يواجهها هذا البلد.
لم يقتصر الغضب لمقتل شيماء الصباغ على أهل اليسار الذى انتمت له شيماء الصباغ فكرياً وحزبياً، وإنما اتسع ليشمل قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى الحديثة من أهل المدن. أبناء هذه الطبقة يمثلون المصدر الأهم لنشطاء وجمهور التيارات اليسارية والليبرالية فى هذا البلد، والأب منا فى هذا الطبقة له من الأبناء من انحاز لليسار، ومن انحاز لليبرالية، لكنهم جميعاً أبناؤه الذين يحبهم، لا يميز أحدهم على الآخر. توزع أهواء الطبقة الوسطى الحديثة بين اليسار والليبرالية هو دليل انشغال بهموم الوطن، ودليل على نبل المشاعر والتكوين، ودليل على طبيعة هذه الطبقة كواسطة لعقد لهذا الوطن.
يشترك أبناء طبقتنا الوسطى فى الإيمان بقيم وأهداف الحرية والعدالة وسيادة القانون والوطنية، لكنهم يختلفون فى أساليب تحقيقها. يختلف أبناء الطبقة الوسطى أيديولوجياً، لكنهم يشعرون بالتهديد المشترك إذا شعروا أن بعضهم مستهدف بسبب قيمهم المشتركة. الغضب لمقتل شيماء الصباغ ليس مبالغة فى رد الفعل على حادث منفرد، لكنه جاء على خلفية شعور متزايد بالاستبعاد والاستهداف. ساهمت صراعات السياسة وخطاب الإعلام وتصرفات السلطة وقانون الانتخابات فى تعزيز هذا الشعور، وجاء مقتل شيماء الصباغ ليؤكده. الطبقة الوسطى الحديثة فى حسابات السياسة هى قوة محركة لها وزن وأثر يزيد كثيراً عن حجمها، وخسارتها تعرض استقرار أى نظام سياسى للخطر.
ردة الفعل الغاضبة على مقتل شيماء الصباغ بين العاملين فى الإعلام والسياسة والنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعى يعكس الشعور بالصلة القوية التى تربط هؤلاء بشيماء الصباغ رغم أن أغلبهم لم يعرفها شخصياً ولا سمع بها قبل موتها.
الاستهانة بمشاعر هؤلاء وردة فعلهم فيه استهانة بفئة اجتماعية ومساحة واسعة من الرأى العام السياسى الفعال أثبتت أحداث كثيرة أهميتها وقدرتها على التأثير فى مسار الأمور رغم قلة عددها وانقسامها. لقد سقط حسنى مبارك ومن بعده محمد مرسى عندما خسرا تأييد هذه الفئة المنقسمة قليلة العدد، فهؤلاء لهم الغلبة فى فئة أهل الرأى المؤثرين فى توجيه الرأى العام.
الاستهانة بالطبقة الوسطى الحديثة ومشاعر أبنائها من صناع الرأى السياسى العام يقوم على حسبة بسيطة لكنها ساذجة مؤداها أن أعداد هؤلاء وقوة مواردهم وطريقة تنظيمهم لا تسمح لهم بالوصول إلى السلطة، وهى حسبة صحيحة تماماً لكنها ناقصة. فهؤلاء لديهم قدرة على تعزيز شرعية الحكم فيطول عمره وتقل الصعوبات التى تواجهه، ولديهم أيضاً القدرة على التشكيك فى قدرته وشرعيته، فتهتز الدعائم وتزيد الأزمات، وتستفيد من ذلك المحظورة والمتطرفة، ومن حسن السياسة عدم الإيغال فى الاستهانة بهؤلاء ومعاداتهم، فالأمر لا يتعلق بما إذا كنت تحبهم أم لا، ولكن بضرورات تحصين الحكم والنظام السياسى الناشئ بمعارضين يمكن التفاهم معهم فى مواجهة أعداء لا مكان لهم، فالأمر ببساطة يتعلق بالضرورات وترتيب الأولويات التى هى من أوليات السياسة.