شىء مرير بالفعل أن يصل الأمر بقطاع من شبابنا وأطفالنا حد ركوب الخطر والمجازفة بالحياة من أجل ترك البلاد والهجرة إلى الخارج؟!. ربما منحنا تحليل عينة من إجابات عدد من أهالى غرقى «مركب رشيد»، وكذلك الناجون من الموت فى البحر المتوسط، بعض مؤشرات للإجابة عن السؤال المهم الذى طرحه الرئيس فى كلمته خلال تسليم عقود الشقق فى مشروع تطوير منطقة «غيط العنب». وأقول مؤشرات، لأن من المؤكد أن الإجابة عن سؤال كهذا تحتاج، كما كتبت أكثر من مرة، إلى بحوث اجتماعية علمية متأنية، يتم إجراؤها على شباب وأهالى القرى الأكثر حماساً لفكرة الهجرة غير الشرعية. تعالوا نستعرض بعض الإجابات:
أحد آباء الضحايا قال رداً على سؤال: «سفرت ابنك ليه؟» قائلاً: «سفرته عشان يجيب قرشين نعرف نجوز بيهم إخواته البنات». مواطن آخر أجاب عن السؤال نفسه قائلاً: «هو اللى كان عاوز يسافر ومصمم على كده»، وعندما سأله المذيع: تطالب الحكومة بإيه قال له: «حكومة إيه.. أنا دافع للواد 30 ألف جنيه، والمركب كان عليها 600 بنى آدم، يعنى 18 مليون جنيه بين السمسار والحكومة!». مواطن آخر أجاب عن سؤال حول أسباب تسفير ابنه فى رحلة موت قائلاً: «ما معييش أجيبله.. ممعييش أعلمه.. ممعييش أعمله حاجة.. حيروح فين.. متعلق فى أى حاجة.. عاوز يكت عاوز يروح». فلاح آخر قال: «إحنا غلطانين.. بس عشان إحنا غلطانين.. يعاقبونا.. إحنا بس عاوزين ندفن ابننا!». أحد الشباب من أهالى الضحايا قال: «أما طلبنا الاستغاثة ست ساعات لما جم.. دى لو مركب فيها مسئول أو مركب أجنبية كان فى دقيقة كل ده حصل». شاب آخر أضاف: «عاوزين تقصير الداخلية فى مراقبة السواحل يتمنع».
إجابات أهالى الضحايا على سؤال «سايبها وماشى ليه؟» تقول بشكل واضح: «الناس تعبانة.. والدولة غائبة». الناس تعبانة هذه حقيقة لا مراء فيها، بإمكانك أن تلمح سحابات الكآبة التى تظلل وجوه ونظرات الكثيرين هذه الأيام بسبب الضغوط الاقتصادية. السلطة تبذل جهداً نعم، لكنه ببساطة جهد لا يصل إلى المواطن، لأن أغلبه يتم طبقاً لرؤيتها وأولوياتها التى تغلب عليها النظرة الاستراتيجية والمستقبلية، فى وقت يبحث فيه المواطن عن خبز يومه. والمشكلة أن السلطة تطالب المواطنين بتحمل المزيد وتعدهم بالمزيد من القرارات التى ستشكل ضغطاً مضافاً على معيشتهم المضغوطة.
المصرى صبور وحمول بطبيعته، لكنه يغضب أشد الغضب عندما تتخلى الدولة عن رعايته. فكرة الدولة الراعية ترسخت فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. المواطن هذه الأيام يشعر أن الدولة تتخلى عنه، وتترك الفقير يلاقى مصيره، ولا تحاول أن تحميه من جشع تاجر، ولا جهل مسئول، ولا بطش قادر. لقد كانت أمارات الذهول والدهشة تعلو الكثير من وجوه أهالى ضحايا «مركب رشيد» وهم يتحدثون عن تقصير الحكومة فى التحرك لإنقاذ ضحايا المركب، وكان ذهولهم أكبر ودهشتهم أعظم وهم يرون تقصيراً رسمياً فى انتشال جثث موتاهم. والموت عند المصريين له حرمة ما بعدها حرمة.. عندما يهون الموت على البشر فاعلم أن الحياة قد هانت وأهينت!.