اسمها «بهية».. وهى كذلك.. فى عينيها شمس لا تغيب.. تضحك، فتشرق الدنيا أملاً.. تبكى، فتذرف البحار والمحيطات أمواجها دموعاً.. فى خديها غمازتان ساحرتان.. وبين ضلوعها قلب ينبض بالخير والحب..!
«بهية» البهية منحها الله عز وجل شباباً دائماً.. اختصها الخالق بجلال إرادته بـ«جين» يقاوم أصابع الزمن.. تمر عليها السنوات والعقود، وهى شابة تفتن الأفئدة والأبصار.. كيف تشيخ «بهية» وذراعاها تكفيان لاحتضان كل البائسين والمعذبين.. لذا.. صارت «بهية» مطمعاً للجميع..!
«بهية» البهية لها بيت كبير.. ومن بيتها.. ومن عينيها تولد كل صباح ومساء ألف حكاية وحكاية.. غير أن حكايتها هى التى تستحق أن تُروى..!
حولها يتحلق الذئاب.. وبين أصابعها تراق الدماء.. هى تحلم بفارس لا يشيخ مثلها.. وهم -الذئاب- شاخت قلوبهم، قبل قَسَماتهم.. ولأن لكل فصيل قادة، كان «كمال» و«لمعى» كبيرين فى غابة الذئاب.. الصراع بينهما قديم جديد.. كلاهما يدرك قوة الآخر.. تجرى بحور الدم بينهما نهاراً.. وفى المساء يلتقيان سراً لتوزيع الغنائم.. كانت «حارة بهية» تعيش مقهورة خاضعة، وكان «الديب» «الفتوة» و«درويش» ينافسه بقوة على قلب «بهية».. غير أنها كانت تحتقر الاثنين.. كانت ترى «كمال» لصاً فاجراً.. وكان كذلك.. وكانت تعرف حقيقة «لمعى» رغم محاولاته الدائمة أن يبدو أمامها «طيباً مسكيناً» يرق قلبه للضعفاء.. «بهية» لا يخدعها أحد طول الوقت حتى لو تصنعت السذاجة بعض الوقت..!
ظلت حارة «بهية» البهية، بهية مثلها رغم الإهمال والفساد.. فأسفل القمامة والطين، ثمة تاريخ طويل من جمال حفره الأجداد بأناملهم.. وكانت «بهية» تبحث دائماً عن ذاك الفارس الذى يولد من رحم «الحارة» لينفض الغبار، ويزيح «كمال» و«درويش» وأتباعهما من طريقها.. كانت الصبية تدرك أن أهل الحارة طيبون.. خانعون.. لا أحد بينهم -حتى درويش- قادر على كسر شوكة «كمال».. فرغم غضبها الدائم من خضوع أهلها، كانت تلتمس لهم العذر.. فقد زرع «عرفة» الخوف بداخلهم منذ زمن طويل.. يمر الواحد منهم أمام فتواته وذئابه، فيرمى «السلام» بلسانه.. ويدعو عليهم بقلبه «يا رب خدهم وريّحنا منهم».. وكان الرب لا يستجيب لهم.. وكانت «بهية» وحدها تعرف السبب، «كيف يستجيب لقوم لا يغيّرون ما بأنفسهم».. هكذا كانت تناجى ربها..!
أما «درويش» فلم يكن مثلهم.. كان يهوى تمثيل دور «الفتوة» أمام أهل الحارة.. كان يتكلم كثيراً فى جلسات السمر عن مقاومته لـ«عرفة».. يروى حكايات أسطورية عن بطولاته الوهمية وكان يصدقه الكثيرون إلا «بهية».. إذ كان الرجل ذكياً ومدركاً لطبيعة الحارة وأهلها.. كان معهم فى الملمات والأحزان والأفراح.. تأتيه الأموال من حلفائه خارج الحارة، فيوزع القليل منها على الفقراء والمحتاجين ويكنز الباقى فى مغارة تحت الأرض.. كان «درويش» يقول لنفسه دائماً وهو يعد الفلوس ويزن الذهب فى مخبئه السرى «سيأتى يوم أشترى فيه الحارة كلها أنا وحلفائى».. لذا كان يأتيه الفقير أو العاطل طالباً عملاً أو رزقاً يعينه على مصاعب الحياة، فيمنحه عدة جنيهات، حتى يعود إليه بيد ممدودة.. وإرادة مسلوبة..!
تبكى «بهية» البهية فى ساعات المساء.. وتصحو مبكراً وكأنها خُلقت من جديد.. الدموع تحفر أخاديد الحزن على وجوه البشر.. ولكنها مع «بهية» تتجمع على خدها كحبات اللؤلؤ.. ألم أقل لكم إنها لا تشيخ.. غير أننى نسيت أن أروى لكم قصة أخرى، كانت تدور فصولها فى البيت القديم الملاصق لـ«بيت بهية الكبير».. إذ كانت الصبية الحسناء ترمى بصرها إلى المدى البعيد بحثاً عن «الفارس» دون أن تدرك أن «فارسها» وفارس الحارة قد ولد أمس..!
البقى تأتى.. غداً
الأخبار المتعلقة:«بهية والذئاب».. دراما من الواقع (3)«بهية والذئاب».. دراما من الواقع (2)