كان «درويش» له عينان جاحظتان، و«وحمة» داكنة فى جبهته، ولحية متقلبة.. مرة خفيفة مهذبة.. ومرة كثيفة تصل أحياناً إلى صدره.. الرجل يفهم أهل الحارة.. يمنحهم ما يريدونه وقتما يشاءون، إلا الثقة، فهو يؤمن بأن غموضه وتحركه الدائم فى الظلام والدهاليز هما عنصر قوته، بعكس «عرفة» الفتوة الذى يمشى بعصا وقبضة حديدية لتأديب الجميع..!
«بهية» البهية كانت تشفق دوماً على أهلها.. مرة، لأنهم صامتون فى مواجهة بطش «عرفة».. ومرة، لأن خداع «درويش» ينطلى عليهم.. وفى الحالتين كانت تمد بصرها للسماء فى انتظار تدخل إلهى يزيح الاثنين، كى تفيق هى والحارة، وفى أحيانٍ كثيرة، كان إيمان الصبية يتزعزع، فتنظر إلى الحارات «الخارجية» لعلها تتدخل لإنقاذها.. غير أنها سرعان ما تفيق من الوهم.. وتعيد بصرها إلى السماء بدعاء واحد لا يتغير «يارب.. ابعث فينا فارساً من بيننا، يخلّصنا من بطش عرفة وشر درويش»..!
يستجيب لنا الرب كثيراً دون أن نشعر.. وفى حالة «بهية»، كان البيت القديم الملاصق لبيتها، آية إلهية للاستجابة.. فبالأمس، وُلد طفل جميل اسمه «حسن» كان أبوه صالحاً ومات وهو يجرى على رزق نزير.. وكانت أمه تقية، ورحلت إلى بارئها وهى فى النفس الأخير من ولادته.. أطلقوا عليه اسمه هذا، لأنه «حسن» السلف والملامح..!
كعادتها.. ذهبت «بهية» البهية لأداء الواجب.. رأته فى «اللفة» فخطف فؤادها.. الولد ليس ككل الولدان.. فيه حاجة حلوة.. فى عينيه قبس نور من «عينيها».. وفى كف يده اليمنى «وحمة» تشبه قرص الشمس.. سكن «حسن» أعماق «بهية».. حملته على كفيها وأخذته فى حضنها الدافئ.. ذرفت حبات اللؤلؤ من عينيها، فتساقطت على خده الصغير.. وبصوت متهدج، قالت لأهله، الذين جاءوا من بعيد: «اتركوه لى.. هو يتيم وأنا أم عذراء.. سأربيه على ما افتقده أهلى فى الحارة.. سأجعله فارساً شجاعاً.. يحمل العلم بيدٍ.. والأمل بالأخرى»!
بكت «بهية» كثيراً كى يتركوه لها.. ولأن الجميع يعرفها.. كان لها ما طلبت.. وكان «حسن» سعيداً فى «لفته»..!
رضع الولد من «ثدى» بهية الذى لم يلوثه شىء.. كان رزقه عند خالقه.. وكانت الصبية تروى له قصص أجداده فى الحارة العريقة: كان يا ما كان فى سالف الدهر والزمان.. ناس طيبين بس مش ضعفاء.. قوتهم مش عضلات ولا سلاح ولا دم.. قوتهم فى العلم والمعرفة والحضارة.. تحت أرض الحارة معجزات أبهرت العالم.. الدنيا كلها يا «حسن» بَنَت نهضتها على علم أجدادك.. بس يا «حسن» آباؤك لم يرثوا شيئاً من ذلك.. آباؤك يعيشون فى جهل وفقر وعجز.. علشان كده داس «عرفة» على رقابهم.. وعلشان كده، بيخدعهم «درويش» بمظاهر الطيبة والعطف.. أنت الأمل يا حسن.. إذا خيّبت ظنى يبقى ليّا رب كريم..!
كان «حسن» يفهم الحكاية وهو فى «اللفة».. تبكى «بهية» فيحرك أنامله الصغيرة نحو خديها.. يمسح دموعها أحياناً.. ويتذوقها بلسانه الصغير أحياناً أخرى.. كانت دموع «بهية» حلوة، لأن فيها حاجة حلوة، مهما هدّها الحزن، ومهما تكاثرت عليها الخطوب.. كبرت حدوتة «بهية».. وكبر «حسن» معها.. تحول «حسن» و«الحدوتة» إلى كائن واحد يمشى على قدمين..!
كانت أول خطوة لـ«حسن» فى الحارة، مزلزلة، هزت الخطوة كيان الجميع.. نظر إليه أهل الحارة، فأدركوا أن فى هذا الصبى شيئاً ما مختلفاً.. طالعه «عرفة» البلطجى، فعرف أنه شديد البأس.. أما «درويش» الماكر، فقرر أن يستميله دون صدام..!
ظل «حسن» يكبر.. ويكبر، وتكبر بداخله أوجاع «بهية» البهية.. كان جسده سليماً دون عضلات.. غير أنه فهم من حواديت «أمه العظيمة» أن عقله وعلمه أقوى من جبال الأرض وعواصف السماء.. لذا مشى «الصبى» بين أهله بالحكمة.. حاول كثيراً استنهاض غضبهم ضد «استبداد عرفة» دون جدوى، كان العجز قد جرى فى عروقهم مجرى الدم.. عاد لـ«أمه» باكياً.. لحست دموعه بـ«لسانها».. وقالتها له مجلجلة: لا أمل فيهم.. اذهب وقاتل أنت وربك.. إنهم هاهنا قاعدون، ذهب الشاب اليافع دون أن يودع «بهية»!
كانت تدرك أنه سينتصر، لأنه هبة الله وكالإعصار الهادر والمفاجئ.. وقف حسن فى وجه عرفة ورجاله.. نسيت أن أقول لكم إن «حسن» ذهب إلى «درويش» أولاً وطلب منه أن يواجه «عرفة» معه، فرك درويش ذقنه ونظر إليه من تحت الوحمة الداكنة، وقال له: لا يا حبيبى أنا و«عرفة» فاهمين بعض كويس.. وعايشين زى ناقر ونقير، بس كل واحد عنده حتته وكمان أنا لا أخلاقى ولا دينى يسمحوا لى بالخروج على «عرفة».. بس اسمع لو عملتها انت لوحدك يبقى أنا ما ليش دعوة.. انت عارف جبروت «عرفة» ورجّالته.. أنا معاك والله بقلبى.. بس خلينى بعيد سايق عليك النبى»..!!!
لم يغضب «حسن» من جبن «درويش».. وذهب الشاب الأعزل لمواجهة «عرفة»، كان «حسن» يحارب بعقله وعلمه.. وكان «عرفة» يبطش بكل الأسلحة.. وكتب الله النصر لـ«الشاب حسن» وقضى على عصابة «عرفة» وعاد به إلى الحارة تكبّله السلاسل والحبال.!
مع أول خطوة لـ«حسن» فى الحارة ووسط احتفال أهلها برحيل «عرفة»، جاء صوت من خلفه: الله أكبر انتصرنا، قضينا على «عرفة»، نظر «حسن» وأهل الحارة إلى الخلف فوجدوه.. كان «درويش» يقفز فرحاً وهو يحمل راية النصر.. لم يندهشوا لأنهم اعتادوا أن يأتى «درويش» دائماً من الوراء.. غير أنهم لم يهتموا كثيراً بالمشهد وهم فى غمرة الاحتفال بالنصر..!!
البقية تأتى.. غداً
الأخبار المتعلقة:«بهية والذئاب».. دراما من الواقع (3)بهية والذئاب.. دراما من الواقع «1»