أعرف أن من بين مستشارى الرئيس محمد مرسى من نصحه بأن يحضر حفل تنصيب البابا تواضروس الثانى فى نوفمبر الماضى، إلا أن سوابق «البروتوكول» الرئاسى، والتحسب من رد فعل التيار السلفى دفعاه إلى عدم الاستماع إلى النصيحة. حرم نفسه، وحرم تجربته الجديدة من مناسبة مهمة لإثبات توجه الرئاسة نحو تأكيد التعددية الثقافية، والتجربة الحضارية المصرية.
الكاتدرائية بالتأكيد أقرب إليه من باكستان والسودان. الكاتدرائية بناها الرئيس جمال عبدالناصر فى الستينيات، وصلى بها السادات فى السبعينيات، وزارها مبارك وأولاده فى مناسبات مختلفة. وللأسف لم تمض على رئاسة مرسى سوى عشرة أشهر حتى انهالت عليها الحجارة والخرطوش والمولوتوف تحت سمع وبصر وتواطؤ أجهزة الأمن. قرب الكاتدرائية منه ليس مكانياً فقط، بل وطنى. الكاتدرائية يزورها شيوخ الأزهر الأجلاء، وآخرهم الشيخ أحمد الطيب، وعلماء المسلمين، والأزهر يزوره بابوات الكرازة المرقسية يرافقهم أحبار الكنيسة. رسالة مهمة عن إدراك عمق التراث الحضارى للأمة المصرية، الذى عرف الفقه المصرى الرحب السمح الذى راعى التعددية، والتنوع، واحترام الاختلاف الدينى.
الرئيس مرسى اعتبر الاعتداء على الكاتدرائية اعتداء عليه شخصياً. تعبير جميل مزج فيه المكان بشخصه، رغم أنه لم يزره أو أى مكان مسيحى آخر وهو رئيس فى حين جاب مساجد مصر جنوباً وشمالاً. لم يسمعه العامة متحدثاً عن العمق الحضارى المتنوع على ضفاف النيل، كل ما نسمعه هو عبارات السماحة والود والإخاء. هذا شىء جيد، ولكن هناك فارق جوهرى بين أن يشعر المرء بأن مصر بمساجدها وكنائسها عنوان العمران، كما ذكر الصحابيون الأجلاء الذين رافقوا عمرو بن العاص عند دخول مصر، وبين الشعور بأن هناك طائفة تنتظر التسامح والود. المحصلة النهائية، لم يشعر الأقباط -ودعنا نكن صرحاء- بأن تجربة الشهور الماضية تستوعب المخزون الحضارى المصرى، كما أنها لم تحقق التسامح والود المنشود، حيث تتسارع وتيرة الانتهاكات لحقوقهم فى ظل الدولة العاجزة، مما يفرغ أحاديث المودة من أى تأثير حقيقى.
أعرف أن ليس هناك «تصور عقدى» يمنع رئيساً ينتمى للإخوان المسلمين أن يزور الكاتدرائية، فقد سبقه بالزيارة الأستاذان عمر التلمسانى ومحمد بديع، وكذلك الدكتور عبدالرحمن البر وكثير من الرموز الإسلامية من داخل الجماعة وخارجها.
هذه الزيارة تعطى لمفهوم «الأهل والعشيرة» المعنى المرجو الذى يتخطى حاجز الجماعة إلى الوطن، ويكسر الزجاج الطائفى الذى يتبلور حول المسيحيين، ويحشرهم فى خندق الطائفة، ويحول مصر إلى دولة طوائف، خلافاً لحقائق التاريخ والجغرافيا والسكان.
الزيارة التى أنصح بها ليست لقاء عابراً، ولكن إدراك يُجسد معنى المواطنة والتعددية والتنوع الثقافى فى السياسات العامة. المسألة ليست علاقات عامة بل هى فلسفة الحكم ونظرته لتكوين مصر عبر العصور بنفس المنطق الذى قرأه جمال حمدان وشفيق غربال وحسين فوزى وغيرهم.