أثناء تشييع جثامين ضحايا «الخصوص» من الأقباط، علا صوت الغضب والحزن، وخرجت هتافات من شباب مكلوم على شاكلة «بالطول بالعرض إحنا اصحاب الأرض»، وهو هتاف صادم، لأن الكل صاحب الأرض مسلمين ومسيحيين، لا ميزة لأحد على الآخر، ولا ينبغى أن يتسيد أحد على الآخر. ولكن السؤال الذى ينبغى أن نجيب عنه دون مواربة: ما الذى دفع الشباب إلى هذا الهتاف؟ ولماذا وصلت الأمور إلى ما هى عليه؟
الإجابة واضحة. من يقول إنه صاحب الأرض يخالطه شعور بأن هناك من يريد أن ينفى نسبه أو علاقته بهذه الأرض. من يتمسك بأرضه يكون فى وجه من يريد أن يخرجه منها. لا أحد يقول إنه صاحب الأرض بينما لا يوجد من يهدد وجوده أو بقاءه عليها. المغالاة فى الدفاع عن أمر تأتى فى أعقاب شعور المرء بأن علاقته به باتت محل تهديد.
هؤلاء الشباب هم ضحايا عقود من التنشئة الطائفية؛ تعليم لا يعترف بوجود حقبة قبطية فى التاريخ، وأفكار تغزو الكتب المدرسية تدعو إلى التشدد والتطرف، ناهيك عن الفرز فى الحياة المدرسية بين مسيحيين ومسلمين. تحولت المدرسة -مؤسسة التنشئة الرئيسية فى المجتمع- إلى أداة تقسيم أكثر من كونها مجالاً للتنشئة على المواطنة، والتربية المدنية.
هؤلاء الشباب هم ضحايا عقود من غياب العدالة. جرائم تُرتكب فى حق مواطنيهم من الأقباط سواء على الأرواح والممتلكات والكنائس، ولم يقدم متهم واحد إلى العدالة إلا فيما ندر، ولا يسعنا المجال لسرد كل الأحداث من ديروط وصنبو والكشح وجرزا وكفر دميانة والعمرانية والخصوص.. إلخ.
هؤلاء الشباب هم ضحايا عقود من عدم المساواة. لا يتمتعون بحرية بناء دور العبادة على قدم المساواة مع المسلمين، وتُزدرى عقيدتهم المسيحية علناً، وتُحجب عنهم وظائف توصف بأنها «حساسة» لمجرد أنهم مسيحيون، ويمارَس التمييز ضدهم على مستويات عديدة اجتماعية وثقافية وقانونية.
القضية معقدة. لا يجب أن نحاسب الشباب على هتافات، بينما نترك جذور المشكلة دون أن نقترب منها. وقد كنت أظن، وما زلت، أن مشكلة «الاحتقان الطائفى» ليست قبطية ولا إسلامية، لكنها أزمة نظام سياسى يقتات فى وجوده على الخلاف بين المسيحيين والمسلمين. الحل يمكن فى أن نمكّن هؤلاء الشباب مسلمين ومسيحيين فى مشروعات تنموية على المستوى المحلى، يعملون معاً، يطورون واقعهم، وتنشأ بينهم شبكات أمان اجتماعى، وعلاقات متداخلة، تقضى على الخلافات وسوء الفهم فى البداية، وتعمق شعور الناس بالانتماء إلى هذا الوطن. لن نسمع لمن يقول إنه صاحب الأرض وحده، ولن نسمح لأفعال تقود إلى شعور المرء بالاستضعاف السياسى فى مواجهة من يريدون أن يسلبوه حق الوجود والبقاء والانتماء للمكان.
يبدو أن كل الطرق تقود إلى نقطة واحدة هى: الدولة الوطنية التنموية التى تسع كل مواطنيها.