الحكم أشخاص وسياسات، ومبارك لا يزال موضع اهتمام شخصى من الجميع، وسياساته موضع تطبيق. ليس مهماً من ينفذها، المهم أنه لا يزال يحكم بالفعل، وحتى إن فارق عالمنا جسدياً سيظل فى العقل الجمعى لهذه النخبة السياسية التى لم تعد تفكر بعيداً عن وقع أقدامه. وأكاد أجزم أنه لو أُجرى استطلاع رأى وسط الناس الآن لاكتشفنا أن مساحة التعاطف، وربما التحسر، على نظام مبارك فى ازدياد. وهو أسوأ ما يمكن أن نصل إليه بعد أقل من ثلاثين شهراً على انتفاضة شعبية عارمة أطاحت بالاستبداد أملاً فى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحياة الكريمة.
المطلوب الآن أن يسقط نظام مبارك فعلاً، ونبدأ نظاماً جديداً. يقتضى ذلك ليس الحروب الأهلية المصغرة بين المؤسسات والقوى السياسية، ولكن الحوار العقلانى الصريح.
أولاً: تصحيح أخطاء المسار السابق. ويعنى ذلك الاتفاق على مواد الدستور المطلوب تعديلها، تعيين نائب عام جديد، وضع ضمانات جادة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، والتأكيد على حياد جهاز الدولة بعيداً عن هيمنة فصيل أو تيار بعينه، والاتفاق بين القوى الحزبية على أجندة تشريعية لمجلس الشورى فى المرحلة المقبلة قبل انعقاد مجلس النواب حتى لا يصبح الأمر أداة من أدوات الصراع بين القوى السياسية.
ثانياً: إدانة العنف بكافة أشكاله، وتقديم مرتكبيه إلى جهات التحقيق أياً كانوا، دون إسدال أى غطاء سياسى على من يدعو أو يروج للعنف، وكذا من يمارسه فعلاً. ويقتضى ذلك فتح تحقيق نزيه حول ما جرى خلال الشهور الماضية من قتل وإصابة للمواطنين، ومحاسبة المتورطين فيها.
ثالثاً: تغيير وجهة الصراع السياسى من العراك على برامج الفضائيات وصفحات الصحف وتظاهرات الشارع إلى طرح برامج سياسية واقتصادية واجتماعية ترمى إلى تغيير حال المواطن، ويظهر فيها التنافس الحزبى، وتشتعل وسائل الإعلام بالأفكار التى تدفع فى اتجاه تطوير البلاد أسوة بما يحدث فى أى مجتمع حديث. سيظل مبارك يحكم مصر ما لم نغير دفة الصراع السياسى من العراك، والنبش فى الماضى، والبذاءة المتبادلة إلى تغيير بنية النظام السياسى ذاته من خلال توجهات وسياسات مختلفة، ومسارات جديدة أكثر عدالة وحرية.
رابعاً: إغلاق ملف ما يُعرف باسم «الفلول» بعد أن فقد المصطلح معناه. فى البداية كان هناك ثوار فى مواجهة فلول، ثم فى مرحلة لاحقة انقسم الثوار على أنفسهم وباتوا يلقون بتهمة الفلولية فى مواجهة بعضهم بعضاً. هذه هى نصيحة نيلسون مانديلا المبكرة التى لم يلتفت إليها أحد، وهى نسيان الماضى والتفكير فى المستقبل. نحن إلى الآن أسرى الماضى، وإذا ظلت هذه الحالة سائدة فإن مبارك سيظل يحكم مصر لأن الناس تنشغل به، ساسة وجمهوراً، يرقبونه، وينظرون إلى لون شعره، ويحللون ابتساماته وإشاراته، ويهتمون بكل كلمة تنبس بها شفتاه.
المجتمعات تُبنى بالتفكير فى المستقبل وليس باستمرار الاحتراب.