خرج الأقباط من رحم نظام مبارك بمشاعر مختلطة؛ هناك فريق منهم اشتبك مع الحياة العامة، وبالتالى كانوا مشاركين أو على الأقل متعاطفين مع نداء الميادين برحيل هذا النظام الذى حدثت فى عهده مآسٍ كبرى للأقباط، مثل الكشح الأولى والثانية وديروط وصنبو، واختتم عهده بجريمة غامضة لم تفك ألغازها إلى الآن فى كنيسة القديسين بالإسكندرية. الفريق الآخر ينتمى إلى قطاعات عريضة من المصريين كانوا ينشدون الاستقرار فى نظام مبارك، ويتعاطفون إنسانياً معه، وشكلت الشعارات التى رفعت فى ميدان التحرير الخاصة بالوحدة الوطنية رسائل تهدئة، واكتمل المشهد بالصلوات التى أقامها مسلمون فى حراسة مسيحيين، والصلوات التى أقامها المسيحيون فى حراسة المسلمين، مشهد جميل، أعطى انطباعاً خاطئاً بأن الاحتقان الدينى سوف يتلاشى مع زوال نظام مبارك.
لم يمض وقت طويل على سقوط نظام مبارك حتى ظهرت أنياب الطائفية فى «صول» ثم «إمبابة» ثم «المريناب»، وأدت أجواء الاحتقان إلى حادثة «ماسبيرو» الشهيرة فى أكتوبر 2011م، التى جعلت شعار «يسقط حكم العسكر» يدوى فى أرجاء الكاتدرائية عشية الاحتفال بعيد الميلاد. سبّب الحادث شرخاً فى العلاقة بين الأقباط والمجلس العسكرى لم يدم طويلاً، فقد جاءت مناسبة رحيل البابا شنودة فرصة مناسبة بالنسبة للقيادات العسكرية لتجاوز المشاعر السلبية التى ترسبت فى نفوس الأقباط من خلال الاهتمام الملحوظ بهذه المناسبة.
حاول الإخوان المسلمون منذ البداية التقرب إلى الأقباط بالمنطق البراجماتى المعتاد: ماذا يريدون؟ وماذا يمكن أن نقدمه لهم؟ لم يكن الإخوان المسلمون يرغبون فى فتح ملف الآراء والفتاوى فى أدبياتهم التى تزعج الأقباط، ولكن الدخول فى اتفاقات مباشرة. جس النبض بدأ أولاً بلقاء جمع اثنين من صحفيى الإخوان المسلمين مع أحد قيادات الكنيسة، ثم تعثر الأمر، والسبب أن البابا شنودة رأى أن الحوار بين الإخوان المسلمين والأقباط ليس له محل من الإعراب؛ فالأقباط جزء من المجتمع، وإذا كان للإخوان المسلمين حزب فهو يخاطب كل المجتمع، ومن بينه الأقباط، فضلاً عن التواصل مع غيره من الأحزاب، أما الكنيسة فهى مؤسسة تتحاور وتتعاون وتدخل فى علاقات مع مؤسسات مماثلة لها، فى مقدمتها الأزهر. وبالتوازى لم تؤدِّ اللقاءات التى عقدتها قيادات إخوانية مع مثقفين ونشطاء أقباط إلى نتائج ذات دلالة، ولا سيما فى ضوء اتجاه المسيحيين -بشكل عام- إلى دعم التيارات والاتجاهات المدنية.
جاء انتخاب الرئيس محمد مرسى فى أجواء من الاستقطاب، لم تكن غالبية الأقباط مؤيدة له. ورغم أن مرسى حاول الظهور بمظهر رئيس كل المصريين، فإن التطورات على أرض الواقع كانت تسير فى اتجاه مزيد من انتهاك حقوق الأقباط، وتراكم المشكلات التى يعانون منها، ومحاصرة الخطابات المتشددة لهم، وإهانة العقيدة المسيحية على يد إسلاميين، وجاءت حادثة «الخصوص» لترفع الغطاء عن الماء الذى يغلى.
المسألة ليست حباً أو كراهية، لكنها فى المقام الأول إعادة تشكيل الدولة المصرية. الصورة شديدة التركيب والالتباس، حيث تتأثر العلاقة بين الأقباط والرئاسة أو بين الكنيسة والرئاسة دون شك بالعلاقة الأعم والأشمل بين الأقباط والإخوان.
فى حوار مع شخصية مهمة فى دائرة السلطة، قال لى: «هناك اعتقاد فى قصر الاتحادية أن الأقباط لا يريدون الرئيس محمد مرسى، وليسوا على استعداد للتعاون معه، بل هم يقفون إلى جوار المعارضة». لم تكن الملاحظة مفاجئة لى، فالتصريحات التى أدلى بها المهندس خيرت الشاطر ثم الدكتور محمد البلتاجى إبان أحداث الاتحادية من أن المسيحيين يشكلون غالبية المتظاهرين، ثم ما لمح إليه البعض من أن أسماء مسيحية كانت تتردد لمشاركين فى أحداث المقطم، كل ذلك يعكس إدراكاً لدى الإخوان المسلمين بأن الأقباط يحملون مشاعر سلبية تجاههم.
على الجانب الآخر، يرى الأقباط أن حكم الإخوان المسلمين يحمل تراجعاً لهم فى الوضع القانونى، والمكانة السياسية، والحضور الثقافى، وبالتالى التيارات المدنية التى تقر بمواطنتهم، وتسعى لإدماجهم فى المجتمع على أساس من المشاركة والندية والمساواة، وترى فيهم شركاء أصلاء فى المشروعات السياسية والاقتصادية المطروحة - أفضل بالنسبة لهم من الارتباط بالإخوان المسلمين.
هذه هى الإشكالية، العلاقة بين الرئاسة والأقباط كما تمر من باب العلاقة بين الإخوان والأقباط فإنها تلج أيضاً من نفق الاستقطاب السياسى.
الإخوان المسلمون يرون أن المسألة مجرد «استيعاب» للاحتجاجات القبطية من خلال التواصل مع الكنيسة -التى يريدونها معبراً وممثلاً وربما مهيمناً على الأقباط- مقابل حفنة من مناصب، وضمان حرية تنظيم الشأن الدينى دون التصدى للأفكار والآراء والممارسات المتشددة التى تمارسها أطراف إسلامية أخرى يبدو أنها تحارب أحياناً بالوكالة عن الإخوان المسلمين.
الأقباط خرجوا إلى الفضاء المدنى، ولا يريدون العودة إلى الانكفاء أو العزلة مرة أخرى، لا هم يرغبون ولا القيادة الكنسية الحالية راغبة فى التدخل فى الشأن السياسى. بصرف النظر عن ملابسات ما حدث فى الخصوص فقد التقط الأقباط رسالة بين ثنايا المولوتوف والخرطوش والطوب الذى ظل لساعات طويلة ينهال على الكاتدرائية، مفادها أن هناك من يريدهم طائفة وليسوا مواطنين متنوعين، هناك من يريد أن يعيدهم إلى داخل الأسوار ويتفاوض معهم من منطلق طائفى وليس تعبيراً عن اندماج وطنى، هناك من يريد أن يعاقبهم على معارضتهم، واحتجاجهم، كما لو أنهم يجب أن يكونوا فى صف الموالاة دائماً.
المسألة بالنسبة للأقباط لم تعد مناصب أو مواقع أو كنائس تبنى أو ترمم كما كان الحال فى عهد مبارك، ولكن فى الأساس حضور ووجود واعتراف بالدولة الوطنية التى تحتفى بكل مواطنيها، وليست الدولة التى تجعل الجماعة فى مواجهة الوطن. باختصار هى معركة وجود فى وطن يتغير، وتهتز أسسه، وتتبدل ثوابته.
أمام الإخوان المسلمين «فرصة» لتقديم أنفسهم تياراً مصرياً له مشروع سياسى، ينخرط فيه الأقباط والمسلمون، ولكن هذا يتطلب منهم الوضوح، وإعلان النوايا، والتصور الحاسم، وقطع الحبل السُّرى الذى يربطهم ببعض الأطراف الإسلامية التى لا تشاركهم الفكر، ولكن تقدم لهم الدعم والمساندة.
تمنيت أن يكون ملف العلاقات الإسلامية المسيحية خارج الاستقطاب، ولكن يبدو أن ذلك مستحيل، وسوف يظل محوراً مهماً فى الصراع على هوية الدولة.