الروتين: الموظف «رئيس جمهورية نفسه»
صورة أرشيفية
«الإنسان مخير، أم مسير؟»، سؤال حسمته الهيئات الحكومية بإجابة قاطعة من خلال تعاملاتها اليومية مع المواطنين على مدار عقود طويلة، فكل مواطن لديه حرية الاختيار بين أن «يمّشى أموره» أو يخوض رحلة كعب داير بين المكاتب والجهات وينفق وقته ومجهوده فى طوابير الزحام والعطلة، «الوطن» فى رحلتها داخل عدد من المكاتب الحكومة رصدت «الوضع المُر» الذى يفتح باباً على مصراعيه للفساد والرشوة، فالزحام الشديد فى مجمع التحرير الذى يقصده آلاف المواطنين لقضاء مصالحهم، لا يختلف عن الزحام الذى تشهده مكاتب البريد والشهر العقارى والسجل المدنى، فى كل من هذه الجهات تقف طوابير طويلة فى انتظار «الفرج» على شباك موظف هو المتحكم الأول والأخير دون رقابة عليه أو جهة يعرفها المواطن للشكوى ضده أو محاسبته.
«زحام وعطلة وطوابير أمام الشبابيك وكل الطرق تؤدى إلى «الفساد»
«مين هيحاسب الموظف؟ ده كبير نفسه وعامل بيه يأمر ويشخط ولا حد يقدر يكلمه»، يقول أحمد حسنين، أحد المواطنين الذى اتجه إلى أحد مكاتب الشهر العقارى بمنطقة الهرم فى الجيزة لتوثيق عقد ملكية، موضحاً أنه تردد أكثر من مرة لإنهاء «شىء تافه جداً» بحسبه، لكن كان دائماً هناك تأخير وعطلة بسبب الموظفين والمواعيد: «مفيش هنا قانون ولوائح يمشوا عليها، كل واحد على مزاجه، ويقولك لو مش عاجبك امشى، ورينا عرض كتافك».
فى كل جهة خدمية، يكون الشعار «يا إما تدفع، أو الورق مايخلصش» النتيجة التى انتهى إليها محمد حمدى، مهندس شبكات بأحد المستشفيات الخاصة، بعد أيام من العطلة لتجديد رخصة سيارته فى إدارة المرور بالأميرية، «حاولت أمشى بدون واسطة ولا فلوس، لكن ماكنش فيه أمل، اضطريت أخلص الورق بالإكراميات والشاى والمجمد والفكة»، من شباك إلى آخر، ومن إجراء إلى إجراء مختلف، رحلة داخل وحدة المرور من أجل تجديد الرخص، وفى كل عملية يضطر الشاب الثلاثينى لدفع تكاليف إضافية غير معلن عنها إلا على لسان الموظف أو العامل، «بيقولوا ويطلبوا مباشرة، هات كذا وأنا أخلصلك الورق، ولو بس خدت وقت فى إنك تفكر تلاقى سابك ومشى، وعارف إنك هتدوّر عليه بعد ما تدوخ السبع دوخات»، إجمالى التكاليف الرسمية لأوراقه كان بسيطاً، نحو 350 جنيهاً فقط، إلا أن المبالغ الأخرى التى اضطر لدفعها ضاعفت من هذا الرقم: «فى الرايح هات، وفى الجاى هات، دفعت 3 أضعاف الخدمة، المرور من أكتر الأماكن المشهورة بالموضوع ده، يا إما واسطة أو فلوس أو تلاقى أسوأ معاملة كأن جاى تشحت».
لدى «محمد» تفسيرات عديدة لتفشى تلك الظاهرة، غالبيتها يدين الموظف نفسه، لكن بعضها يدين أيضاً النظام العام فى الجهاز الإدارى للدولة، يقول: «بالدرجة الأولى هى أزمة أخلاقية تحتاج لتوعية مجتمعية كبيرة جداً، لأن الأخلاق فسدت وقبول الرشوة أو طلبها أصبح شىء عادى، يعنى بالبلدى الذمم باظت»، إلى جانب ذلك يرى أن الأزمة الاقتصادية وتدنى الوضع المعيشى لكثيرين ساهم فى تفشى الظاهرة، «علشان نكون واقعيين، يعنى الموظف اللى مرتبه ألف أو اتنين، ودول الغالبية العظمى هيلجأ معظمهم لفتح درج المكتب، ويبقى بيطلع مرتب غير رسمى يقدر يعيش منه ويأمن بيه مستقبله كمان، أنا مابقولش إن ده صح، لكن ده الواقع، وعلشان نحارب الموضوع لازم نصلح المشاكل دى».
معاناة يعيشها الجميع، حتى داخل مكاتب شئون الطلبة فى الجامعات، مثلما يوضح محمد عزيز الذى أنفق ساعات طويلة أمام مكتب شئون الطلبة بكلية الآداب جامعة القاهرة، «رُحت وجيت أكتر من يوم، علشان أستخرج الملف بتاعى من الكلية وأنقل لكلية الحقوق، ورغم أن كل حاجة مناسبة لكن كان فيه عطلة كبيرة وتلكيك على حاجات بسيطة، ومدام فلانة تبعتنى لأستاذ فلان، ومعلش تعالى بكرة علشان مين واخد إجازة»، مبررات غريبة وعجيبة سمعها «محمد» على مدار الشهر الأول من بداية دراسته حتى استطاع أن ينقل أوراقه إلى الكلية الجديدة، لكن بعد «بهدلة» بحسب وصفه، «عامل جوه الكلية عرض عليَّا أدفع 500 جنيه ويخلص لى الورق كله، لكن رفضت، وقلت له شكراً، البهدلة ولا الدفع فى الأيام الصعبة اللى احنا فيها».
وعود كثيرة بمواجهة تلك «الحالة العامة» التى تفتح ألف باب للفساد والعطلة، سواء على مستوى المواطن أو الدولة، آخرها ما أكده وزير التخطيط الدكتور أشرف العربى، «المواطن مش هيتبهدل تانى علشان يستخرج شهادة أو يقدِّم لابنه فى مدرسة، مفيش عذاب تانى فى مكاتب الحكومة مع نهاية 2017»، تصريحاته التى أدلى بها خلال الصالون الثقافى للإعلامى أحمد المسلمانى، أوضح فيها أن الوزارة تعمل على الجمع الإلكترونى لجميع بيانات المواطنين والمنشآت على مستوى الجمهورية خلال العام الحالى، وبعدها ستطلق منظومة ميكنة جميع الخدمات الحكومية المقدمة للمواطنين، وأضاف: «يعنى هنختصر خطوات كتير، وهنقلل التعامل بين المواطن والموظف، وبضغطة زر تنتهى العديد من الإجراءات»، نقلة كبيرة حال نجاحها تأتى ضمن استراتيجية التنمية المستدامة التى أعدتها مصر حتى 2030، يصفها الدكتور صلاح الديب، خبير الأزمات، رئيس المركز العربى للاستشارات القانونية، بأنها ستحدث اختلافاً نوعياً، ليس على مستوى الجهاز الإدارى وحده، لكن على مستوى جميع القطاعات فى الدولة، وأيضاً سترفع الرضا العام بين المواطنين، وستحد بشكل كبير من ظواهر سلبية فى مقدمتها الرشوة والروتين الإدارى، مضيفاً: «نتمنى تنفيذ وعد الوزير، وتحقيق تلك الآلية الجديدة على غرار دول كثيرة استطاعت أن تتقدم وتنمو».