طبيب مصري أممي.. يتذكر جرائم إسرائيل بغزة في 1954

يجلس وأمامه 7 علب من البلاستيك الشفاف بداخلها أدوية، مرقمة بأيام الأسبوع ومواعيد تناولها، استشاري الطب الوقائي ذو الثمانية والثمانين عاما، يتناول أقراصا للعلاج من مرض القلب والسكر وضعف الذاكرة، وتعاونه على الحياة زوجته التي تحملت معه عديدا من المآسي في مشاور حياتهما.[SecondImage]
إنه الدكتور أحمد شوقي الفنجري، الذي تختفي آثار تقدم السن والنسيان، ويحل مكانها ذاكرة قوية وحاضرة بالتفاصيل والصور عن تجربة أسره في يد الجيش الإسرائيلي منذ حوالي 57 عاما.. وكأنه يحكي عن واقعة حدثت بالأمس.
نشأ الفنجري، في أجواء تهتم بالوحدة الوطنية، وشارك سرا في مقاومة الاحتلال البريطاني لمصر، وعندما تخرج من كلية الطب عام 1951، حمل معه هموم الوطن في بعثته إلى أمريكا.. وفاز هناك بجائزة أفضل بحث طبي، وعمل لحساب الأمم المتحدة مستشارا للطب الوقائي.
كان الوضع في الشقيقة فلسطين عام 1954، تسيطر عليه العصابات الاستيطانية في حربها لزيادة رقع الأرض، بعد مرور ست سنوات على نشأة دولة إسرائيل، وحدودها في ذلك الوقت كانت القدس الغربية، لكن ميليشيات الصهاينة كانت تخوض حرب عصابات في غزة لطرد سكانها للاستيلاء عليها.
صاحب المؤلفات الأدبية العديدة،انتقل الفنجري إلى غزة عام 54، وارتدى معطف الرسالة الإنسانية في هيئة طبيب محترف قاسم الفلسطينيين معاناتهم، ليحكي عن الفلسطينيين: "ذهبت أنا وزوجتي للعمل في قطاع غزة، وكان لم يمضِ على وصولي يوم واحد حتى استدعيت لإسعاف مصابين جرحوا في هجوم شنته إسرائيل على معسكر "البريج" للاجئين، وراح ضحيته 3 أطفال وامراة، إضافة إلى عدد من الجرحى".[FirstQuote]
وأكمل: "لم يكتفِ الإسرائيليون بما فعلوه بمخيمات اللاجئين، بل هاجموا أيضًا مستوصف المعسكر، وأصابوا "حكيمة" الولادة بشظية قنبلة، كما أصيبت بعض الأمهات الحوامل وهما في حالة وضع داخل معسكر الولادة، وهكذا شاءت الظروف أن يولد الأطفال الصغار بدون أمهاتهم ويستقبلون الحياة بأصوات مدافع الجيش الإسرائيلي، بدلا من أصوات الفرح بقدومهم".
صمت الفنجري قليلا وتذكر ما رآه في غزة، من أناس يقتلون وتهدر دماؤهم، ونساء يغتصبن، وبيوت تقتحم ويُسرق ما بداخلها من أموال ومتاع، إلى أن جاء يوم، وقرر حاكم غزة تسليم المدينة للإسرائيليين، وأذاعت إسرائيل أن مدن القطاع قررت التسليم ماعدا قائد قطاع خان يونس بغزة، وكان وقتها "اللواء العجرودي"، الذي رفض تسليمها في عام 56، وانتابني شعورا بالسعادة وقتها، لوجود قائد شجاع استطاع التصدي بشجاعة.
توجه الفنجري، إلى خان يونس، ومعه عدد من الأطباء لإسعاف من يسقط في المعركة بين جنود "العجرودي" والإسرائيليين، "خرجنا في الطريق إلى خان يونس، وفوجئت أن الطريق أمتلأ بالشباب والرجال للانضمام إلى المقاومة الشعبية هناك".
وتابع: "القذائف تهاجمنا من كل اتجاه، وتطلق المفرقعات شديدة الانفجار، والطائرات الإسرائيلية ترصد تجمعات جنود العجرودي، وأخذوا يختبئون تحت الأشجار، في محاولة للهروب من بطش العدو إلى أن وصلوا إلى خان يونس، بعد أن أصبحت المدينة محاصرة من الإسرائيليين، حاول العجرودي وجنوده الصمود مهما كلفهم ذلك من أرواح".. هكذا وصف الطبيب المصري الأوضاع في خان يونس.. واستطاع اليهود مهاجمة البيوت وإخراج النساء والأطفال والرجال ويأمرونهم بحفر حفرة في الساحة.. وبعد الانتهاء منها يطلقوا النار عليهم دفعة واحدة ليسقطوا داخل الحفرة، من دون أن يرمش لهم جفن؛ انتقاما منهم لرفضهم التسليم.
يسترجع الفنجري، شريط الذكريات أمام عينيه التي ملأها الحزن عندما كان يسعف من علا أنينهم وصراخهم، منتظرين من يداوي جراحهم، وتابع.. بدأت إسرائيل تتفرغ لغزة، لتعلن حظر التجوال وكل من يُرى خارج بيته يعدم في الحال، واستمر الوضع على ذلك لمدة ثلاثة أيام، رأت غزة فيها الأهوال، حينها كان "الموظف الدولي" وحيدا فقد ذهبت زوجته إلى القاهرة لولادة طفلهما الأول، وصار يفكر ماذا يفعل لو اقتحموا البيت، وقام بجمع كل شيء ثمين ووضعه داخل جهاز التسجيل وخبأه في مكان آمن.
استطرد الفنجري: "انتابني شعورا بالخوف عندما سمعت طرقا على باب شقتي في الساعة الثانية صباحا، وما إن فتحت الباب حتى اقتحمه ثلاثة جنود من اليهود، ودفعوني بعنف على الأرض، وأخذ أحدهم يصوب البندقية تجاهي والاثنين الآخرين قاموا بقلب اركان الشقة رأسا على عقب.. فتذكرت وقتها التسجيل الذي أخفيت فيه كل مقتنياتي".
وبابتسامة بسيطة تعلو ملامح وجهه ويقول: "كنت أتوقع أنهم لم يعثروا عليه لأني خبأته"، فوجدت: "أحدهم يخرج وبيده التسجيل فشعرت وقتها بالحسرة والألم على ضياع كل ما أملك، وقتها كنت شابا في مقتبل العمر ولا أملك شيء ذا قيمة إلا ما بداخل هذا الصندوق، وأخذوا يتقاسمون الغنائم.[SecondQuote]
وانتقل الفنجري، للحديث عن معاناة أخرى في غزة: "انتقلت بعد ذلك لاستلام عملي في معسكر "جباليا" للاجئين وكم كانت الحياة شاقة وقاسية تحت حكم إسرائيل، وفي إحدى الليالي مرت الدوريات فرأى الجنود فتاة فلسطينية في إحدى المعسكرات فتسحبوا في هدوء وانقضوا عليها واغتصبوها بالتناوب، وذهب إليها أطباء المعسكر ووجدوها في حالة يرثى لها، وقمنا بإسعافها وفي الصباح تجمع نساء المعسكر في مظاهرة كبيرة للتنديد بحكم اليهود.
وأخذن يهتفن "بسقوط الدولة" وحاول الإسرائيليين تفريقهم بالأسلحة، ومرت الأيام وجاء الحاكم الإسرائيلي في زيارة لعيادة "جباليا" التي أعمل بها فاندهشت من طريقته المهذبة فتطرقت في الحديث معه حول الاعتداء على نساء غزة وما حدث للفتاة ــ السابق ذكرها ــ فقال لي: "سأبعث إليك بمحقق ليعرف ما حدث".
صمت الفنجري وظهرت عليه علامات الغضب، وأكمل "جاءت سيارة عسكرية وطلبوني فخرجت معهم وأنا مطمئن وجاء إلى المحقق ليتحدث معي، كان قزما من يهود اليمن، لم يعطني فرصة كى أخاطبه وأطلعه على تفاصيل الحادث بل صاح في وجهي قائلاً: "أنت متهم بالتشنيع على جيش إسرائيل وتشويه سمعته وتكذب في ادعاءاتك فهل تعرف عقوبة هذه الأكاذيب".
المفاجأة كانت شديدة أذهلت الفنجري، عندما صاح القزم ــ على حد وصفه ــ قائلا: "خوذه إلى السجن" فإذا بأربعة جنود يمسكون به ويجروه إلى السجن وكانت في ذلك الوقت تحولت المدارس إلى "زنازين" للمعتقلين بعد أن سرقت جميع محتوياتها ليتم وضعي فيها: "كنا محبوسين في غرفة مظلمة لا يوجد بها بصيص من الضوء وننام على البلاط أنا ومجموعة من الشباب المعتقلين معي".
"بلا طعام أو شراب لمدة يومين، من العناء والتعب والتفكير في ما سيحدث لنا.. هل سأرجع لزوجتي وطفلي الذي لما أراه" حالة من اليأس تملكت الطبيب المصري بعد أن تذكر طفله الرضيع الذي فور مجيئه إلى الدنيا تم أخذ والده كأسير لليهود المعروفين بأن من يدخل عندهم يصنف في "عداد الموتى"، إلى أن جاء بعض الجنود وأخذوهم في سيارة مغلقة لمنطقة بعيدة عن العمران ورصدوا أعدادهم في طابور طويل ومن حولهم فرقة دبابات.ز حينها استشعر الطبيب بأنه "ميت" لا محالة.
حلقات من التعذيب تعرض لها "الفنجري" وباقي الأسرى حين ربطت أيدى وأرجل المعتقلين بالحبال وكانت "المجنزرات جاهزة لدهسهم وتحطيم عظامهم مثلما شاهدوا الجثث المدهوسة بالدبابات"، بعيون باكية ودموع منهمرة وصوت مرتعش مليء بالحزن متذكراً الأحداث رغم مرور زمن طويل عليها، "بدأت أقرأ القرآن ووجدت نفسي أنشغل عن كل من حولي بمخاطبة الله حتى شعرت بارتياح وبرودة في قلبي ونسيت كل ما يحدث حولي" وقلت: "يأرب إذا كان الموت خيراً لي فارزقني الشهادة وإذا كانت الحياة خيراً لي فنجني مما نحن فيه".
فجأة ظهرت امرأة أربعينية، ترتدي ملابس بيضاء تصرخ في وجه جنود الاحتلال بعنف: "أوقفوا ما تفعلوه في الحال". كررتها مرتين، وتراجع أمامها الجنود. كانت هذه السيدة تسمى "براجر"، كبيرة الهيئة الدولية لإغاثة اللاجئين في الأمم المتحدة وقتها.
بدأوا بالفعل يفكون الحبال معلنين أنهم سوف يعترفون بنا كأسرى حرب وينقلوننا إلى معتقل الأسرى الرسمي، وبعد مرور شهر على اعتقالي، تعرفت على الضابط الذي كان يحقق معي وفوجئت أنه مجندا وضعته إسرائيل وسط الأهالي الفلسطينيين للمخابرة عنهم، وكنت أراه دائماً في الحي الذي كنت أسكن فيه واستطاع أن يتعرف عليّ بسهولة ثم نظر لي وقال: "أذهب ليس عليك شيء".
يذكر أن عدد الأسرى وقت حرب 1956 يقدر بـ 5500 أسير مصري، تم أسرهم من قبل الجيش الإسرائيلي وتم الإفراج عنهم في تبادل للأسرى بين مصر وإسرائيل.
ويستشهد الفنجري ببعض القصص من كتابه "إسرائيل كما عرفتها" الذي ألفه ليسرد به لحظاته الشاقة وسط الأسرى الفلسطينيين ومعانتهم مع جنود الجيش الإسرائيلي منذ أن وطأت قدمه الأراضي الفلسطينية، "للفنجري أكثر من 30 كتابا".
هطلت الأمطار على غزة بغزارة لم يسبق لها مثيل وكأنها جاءت لتفضح الإسرائيليين وأفعالهم الوحشية من دهس الأحياء بالمجنزرات وتعذيبهم وبدأت السيول تنساب من داخل إسرائيل لتجرف معها الجثث المدهوسة نحو غزة فتجمعت الأسر للبحث عن ذويهم وأبنائهم المفقودين، فأخذت أفحص الجثث مع الطبيب الشرعي فإذا بهم جميعاً تعرضوا لتعذيب وحشي قبل قتلهم فقد كانت الأذرع مكسورة والأرجل والضلوع، كانت أعدادهم تقدر ما بين 700 إلى ألف جثة.[ThirdQuote]
"فجأة ونحن نبحث ونصور في هدوء فإذا بسيدة عجوزة تصرخ وتقول "ابنى.. جابر" وكانت تمسك بيدها رجل خشبية فتجمع حولها الأهالي والأمهات وقمنا بسؤالها كيف عرفتي أنه ابنك فجميع الجثث مشوهة ولا نعرف ملاحمها فأجابت ابنى كانت رجلة مبتورة وقمنا بتركيب رجل خشبية له وجمعنا مصاغ أهل القرية وخبيناها في رجل "جابر".
بتأثر شديد من هول التجربة يوقف "الفنجري" حديثه عن التجربة ممتنعا عن استكمال واستحضار المآسي غير الإنسانية التي شهدها "هكذا عشت أسوء أيام حياتي في عزة وانتهت فترة عملي هناك وعدت إلى مصر لإقامه دعوى قضائية ضد الكيان الصهيوني للمطالبة بالتعويضات.. علما بأن مصر من حقها بموجب القوانين والاتفاقيات والمعاهدات الدولية أن تحصل من إسرائيل على تعويضات، وذلك لارتكاب الصهاينة جرائم تعذيب وقتل ما يقرب من 65 ألف أسير مصري إبان عدوان 1956، و1967، وحرب الاستنزاف فجرائم الحروب ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.