«هنالك أيام فارقة فى حياة الشعوب، أيام تصنع التاريخ.. ترى هل نمر ببعض منها أم تراها لحظات احتضار أخرى لشعب يموت؟»..
تلك كانت أولى كلمات مقالى فى يناير 2011.. ومرت السنون فى لعبة تبادل المقاعد والاتهامات بين أصدقاء الأمس وأعدائه.. وبلا تردد فى إعادة النظر ومراجعة النفس ومقاومة السقوط فى مستنقع الكبر (والمقاوحة) أو على النقيض الانزلاق مع تدافع القطيع، ما زلت أحاول أن أكون شجاعة لدرجة التوقف عن الحسابات التافهة لاعتبارات البشر.. لكن الانحياز للحقيقة المجردة من المصلحة أو الهوى.. أتذكر أحلاماً ترجمتها يومها إلى كلمات ملأت بها الدنيا صياحاً فى خضم الحدث تقودها جياد الحماسة وعربتها؛ لأقف عند كل منعطف جديد يطل علينا منه أحد أوجه الحقيقة، قبيح غالباً، متجمل فى بعضها، برىء فى قليل منها، من زاوية رؤية تتسع بمساحات انقشاع الغيوم.. يبقى السؤال ذاته ملحاً: «هى ثورة ولا مؤامرة؟».. فهل لك يا صديقى أن تبحر معى عبر طيات كلمات، كان وما زال التاريخ وصاحبة الجلالة شهوداً عليها حين نُشرت فى حينها، وظلت مشروع كتاب عصى على الظهور للنور؛ بحثاً عن تلك الغائبة الحاضرة: إنها الحقيقة.
قررت اليوم أن أرسم بفرشاة قلبى صوراً لنماذج صادقة رأيتها بعينى فى الميدان وصدقتها كثيراً حتى وإن كنا جميعاً مخدوعين:
ظل يتابع خطيبته عبر الهاتف الأرضى نظراً لانقطاع خطوط المحمول ليمنعها من القدوم لمشاركته فى الميدان يوم 28 يناير ويؤكد عليها عدم الخروج من المنزل وهى تستحلفه أن يحافظ على نفسه ورغم الأحداث المتسارعة وانتشار العنف فى الشوارع أخبرته والدتها بعد ساعات قليلة أنها ذهبت لطبيب الأسنان وسط زوبعة غضب وعتاب منه على خروجها فى تلك الأجواء الخطرة وبعد مطاردات عنيفة سقط فيها الشهداء والجرحى من حوله توجه مع رفاقه إلى دار ميريت حيث مكان تجمعه مع أصدقائه دائما وقد فتحت أبوابها للجميع لالتقاط الأنفاس وتضميد الجراح، فإذا به يجدها أمامه ليندفعا ولأول مرة كل فى حضن الآخر بلهفة من ظن فقد رفيقه إلى الأبد.
- «مقدرتش ماكونش معاك»، وأخذا يبكيان كالأطفال.
أما ذلك الأب المتحفظ الذى عاش حياته حاملاً هم بناته الخمس، فالخروج والدخول بحساب ومالناش دعوة بالسياسة، لم يستطع منعهن -وهو على رأسهن- من الانضمام للجميع، فهنالك تاريخ يحتاج إلى إعادة صياغة.
شاب من متحدى الإعاقة لم يؤخره كرسيه المتحرك لحظة عن المشاركة، فنداء الوطن لا يعيقه أى شىء. يصحبه أخوه (كما يبدو من ملامحهما المتشابهة) إلى الميدان حاملاً علم مصر ومتلفحاً بكوفية بألوان العلم لمزيد من الدفء.
يدفع بكرسيه المتحرك بقدميه مساعداً أخاه مستبقاً فى لهفة الوصول إلى الميدان فى تحدٍّ جميل ليس للإعاقة وحسب.
صبى لا يتعدى عمره 13 سنة بصحبة والدته التى تبدو على قدر من التعليم والثقافة كانا بمفردهما فى مسيرة مقبلة من المهندسين وقد رسم محمود علم مصر على وجهه ووضعه كالوسام فوق صدره بينما كانت والدته تحمل فى يدها علماً وباليد الأخرى تمسك بيده تقوده فى درس جميل قد يكون أهم من «أ.. ب.. ج»، إنه «أ.. ب وطنية»؛ ليتعلم وهو على أعتاب الشباب كيف يكون رجلاً.
أما تلك السيدة البسيطة فقد فاض بها الكيل بعد مرور الأيام تلو الأيام على سقوط النظام المزعوم والذى يبدو أنه بسبع أرواح.. وقد سئمت عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام» فحملت لافتتها ووقفت أمام مجلس الشعب وقد كتبت عليها: «الشعب يريد أن يعرف إيه النظام؟».
وأخرى وقد أخذتها حمية المشاركة فى ماسورة الأحزاب التى انطلقت مع بداية الثورة وقد قررت إنشاء حزبها الخاص حزب المقهورين المنسيين بلا سند ولا نصير الذين يبحثون عن مكان لهم تحت الشمس فحملت لافتة حزبها: إنه حزب «أولاد البطة السودا».
ولأن كل ثقافة تفرض نفسها وقت اللزوم فقد قام البعض بعمل زار.. نعم زار فى قلب الميدان وبدأوا يمارسون تلك الطقوس العجيبة تحت قيادة كودية زار (عُقْر) لها تجارب ناجحة لطرد أعتى العفاريت.. لعل الروح الشريرة تخرج من جسد الوطن...
وللحديث بقية..