فى الحلقات الثلاث السابقة؛ اقتصر الحديث على ما دار بمؤتمر «عناصر داعش ما بعد سوريا والعراق»، الذى نظمة «المركز الدولى للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية» بالعاصمة تونس، واليوم نصل إلى الحلقة الأخيرة فى تلك السلسلة؛ لنعود فيها إلى صلب عنوانها، الذى صاحبنى منذ مغادرتى تونس وحتى الآن فى القاهرة.
طوال سنوات حظيت كلمة «الإجابة تونس» بشهرة استخدامها اختصاراً لتحليل العديد من الظواهر، أو استجلاء سياقات بعينها، كان لها أشباه ومستنسخات عديدة، جرت فى أكثر من بلد عربى. على وجه الخصوص فى مصر؛ حيث ظلت هناك خيوط منسوجة ما بين البلدين، تتبادل كلتاهما الإرسال والاستقبال عبر تلك الخيوط، عن قصد أو بغيره، لكنها على الأقل حاضرة بالمشهد التونسى العام. وهى تستدعى الفحص والتعاطى معها لمن يهمه الاقتراب من معادلة الحراك الإقليمى العام، فلم يعد هذا «العام» قاصراً على «النشاط الإرهابى المسلح» الذى أفردنا له الحلقات السابقة، دون التقليل من أهمية شراكتنا مع تونس وليبيا فى مشهد كلى للتهديد الإرهابى، إنما يظل التأكيد على أهمية الاقتراب وفتح العيون على اتساعها.
فى زيارة لم تتجاوز الأسبوع، أقلقنى أنى وجدت تونس تحمل على كاهلها من الأسئلة أكثر مما تمتلك من إجابات شافية عما يضربها من أسباب للحيرة. كان مشهدها المحلى على مسافة أيام سبقت «انتخابات البلديات» التى جرت وفق قانونها الجديد، الذى ينقل عملها لمساحة متقدمة من «اللامركزية» فى إدارة شئون المدن والمناطق التونسية. اللافت أن غالبية الرأى العام التونسى كان حينها ينظر إليها باعتبارها ستكون محطة اختبار وتقييم للعمل السياسى والحزبى لفترة امتدت منذ فوز حركة «نداء تونس»، وتولى الرئيس الباجى قايد السبسى مقاليد السلطة الرئاسية مع حكومة تمثل قيادات الحركة. ويقف على الجانب الآخر من المشهد «حركة النهضة» الممثلة للإخوان المسلمين، التى دُفعت للتراجع خطوات للخلف بعد هزيمتها فى 2014، وعُدت حينها من توابع ثورة يونيو 2013 المصرية. لكن الأمر لم يكن وردياً، منذ هذا التاريخ أو ما جرى بعده من ترتيب جديد لمعادلة الحكم التونسية، فقد ظل التعثر الاقتصادى ومشكلات الفساد يمثلان خاصرة النظام الرخوة، التى مكنت وتسببت فى قدرة المشروع الإخوانى على ابتزاز السلطة والمجتمع على السواء!
أظهرت نتائج انتخابات البلديات الكثير مما كان جلياً فى الشارع التونسى قبلها. وصدقت رؤية الكثيرين الذين توقعوا أن تكون النتيجة رسماً جديداً للخريطة السياسية سيحاول الناخب التونسى صناعتها، فلم يكن فوز «المستقلين» المفاجئ سوى نوع من التصويت العقابى لكلا الحزبين اللذين يشكلان الائتلاف الحاكم، والمكون من حركة «نداء تونس» وحركة «النهضة» الإخوانية. حيث اعتبر الرأى العام التونسى أن غياب الإنجازات، وضعف أداء الطبقة الحاكمة من داخل صفوف التيارين يحتاج إلى وقفة وإلى تغيير حقيقى. وقبل الترتيب الذى جاء بـ«النهضة» خلف المستقلين وفى الذيل حركة نداء تونس، كان هناك العزوف عن المشاركة الذى بلغ نحو 66% من مجمل الناخبين ملمحاً بارزاً حمل دلالة كاشفة عن حجم الإحباط، بالأخص عندما تكون نسبة الإحجام الأكبر من داخل صفوف أنصار كلتا الحركتين.
حركة النهضة، التى حلت بالمركز الثانى، واجهت هذه المرة نزيفاً حاداً فى الأصوات، أفقدها نحو مليون من الأصوات بعد 7 سنوات من الحكم. لذلك اعتبرت الجولة فوزاً منقوصاً، وانتكاسة حقيقية للمشروع الإخوانى وللإسلام السياسى بوجه عام. فالحركة لم تحصل فى البلديات سوى على 516٫419 صوتاً، مقابل نحو المليون صوت فى الانتخابات التشريعية 2014، بينما كانت ذروتها الانتخابية فى العام 2011 قادرة بسهولة على حصد مليون و500 ألف صوت. ولذلك بدا المنحنى التصويتى فى التراجع، لتيار يزهو دوماً بقدرته على حشد مؤيديه، دالاً على عمق الإشكاليات داخل مشروع التيار ذاته. رغم محاولته إضفاء شكل من أشكال الانتصار بعدما تقدم على غريمه «نداء تونس».
وربما الأفدح فى الخسارة، فعلياً، هى حركة «نداء تونس» التى تنسب إلى الرئيس السبسى، وقد جاءت كحركة تصحيحية للثورة التونسية، بعدما كان تيار الإسلام السياسى بقيادة الإخوان على وشك التهام معادلة الحكم إلى الأبد. لذلك كان يفترض لحركة النداء أنها محمية بتيار شعبى جارف، استطاع فى انتخابات 2014 أن يعيد ترتيب المشهد بالكامل، لكنه هذه المرة واجه تراجعاً حاداً، فأصواته فى انتخابات البلدية لم تتجاوز 376 ألف صوت، ليفقد ما يقارب 900 ألف صوت باعتباره حصد مليوناً و200 ألف فى انتخابات 2014. ومن كان يتوقع تلك الهزيمة للنداء من داخل الحركة، ومن خبراء الداخل التونسى، اعتبروا أن النداء سيدفع ثمناً فادحاً لتحالفه مع «حركة النهضة»، حيث بدا الحزب الحاكم يعانى من سيولة وارتباك، دفعا الكثير من قياداته وقواعده للخروج، باعتبار أن الحركة يجب أن تكون مناهضة ومتناقضة مع مشروع «حركة النهضة»، لهذا يعد هذا التحالف البراجماتى ضرباً فى قلب تيار النداء، وما يمثله من مكون واتجاه فى الشارع التونسى.
تفاقم الإحباط الذى يعانيه التونسيون أسس لأزمة ثقة فى الأحزاب بوجه عام والحاكمة بشكل خاص. وقدرة قوائم «المستقلين» على حشد 32% من المصوتين يعكس حالة عدم رضا واسعه، فضلاً عن التوجس من دخول الإسلاميين للمشهد مرة أخرى تحت عباءة «حركة النداء». فالمشروع الإخوانى حاضر بقوة فى الشارع التونسى، أو هكذا تم ضخ العافية فى شرايينه، ليتبين أنه لم يقبل بهزيمة اعتبرها محطة عابرة، فهو موقن بسرعة عودته على جناح فشل الآخرين. هذا يضع المجتمع التونسى فى حالة انقسام، ماثلة للعيان من الوهلة الأولى، كما يبدو أيضاً بوضوح، جاهزية الرعاة الإقليميين لتلقف ما يلزم المشروع الإخوانى فى لحظته الراهنة، ليعودوا ويرسخوا هذا الانقسام. ليس فى تونس وحدها، بل وكما رأينا فى محيط الشمال الأفريقى بكامله.