منذ اللحظة الأولى التى تولى فيها الدكتور حازم الببلاوى رئاسة حكومة ثورة 30 يونيو، كان هناك كثيرون -وأنا منهم- يعرفون أن الرجل ليس هو الاختيار المناسب أبداً، لسببين لا يمكن تجاهلهما، السبب الأول يتعلق بالسن (مواليد 1936)، والتقدم فى العمر ليس بالضرورة مانعاً لتولى مناصب سياسية أو تنفيذية فى كل الأحوال، ولكنه فى بلد مثل مصر يعانى مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية مزمنة، يتحول فوراً إلى أداة تتناقض تماماً مع احتياج البلد لرئيس وزراء على قدر وافر من النشاط والصحة يتناسب مع ثقل الأزمة. السبب الثانى والأهم يتعلق بالنظرية الاقتصادية التى عاش الدكتور الببلاوى عمره كله منتمياً إليها ومدافعاً عنها؛ فهو من أشد المؤمنين بالاقتصاد الحر وحرية الأسواق والتجارة، ومن أكثر المفكرين كرهاً لامتلاك الدولة للمصانع والمزارع والسكك الحديدية ووسائل النقل الجماعى، وتزخر كتب «الببلاوى» العديدة بمرافعات منمقة عن خطايا العولمة والخصخصة فى حق مئات الملايين من البشر الذين عانوا البطالة أو فقدوا وظائفهم أو انخفضت أجورهم إلى النصف بعد بيع الشركات المملوكة للدول إلى أباطرة وبارونات القطاع الخاص الذين لا يمثلون سوى 5٪ من جملة سكان المعمورة، ومع ذلك يستحوذون على أكثر من 50٪ من جملة الناتج العالمى.
والخطير فى وجود «الببلاوى» -داعية الاقتصاد الحر- على رأس حكومة ثورة عارمة، أن الشعب المصرى يعانى منذ 30 سنة على الأقل سطوة قلة محظوظة على معظم موارد البلد، وقد بدأت هذه القلة طريقها إلى الثراء الفاحش بالسطو على مدخرات المصريين البسطاء فى البنوك وبمنحها امتياز ملكية الأراضى وتراخيص المصانع والتوكيلات التجارية، والتغاضى -لقاء رشاوى للمسئولين- عن الممارسات الاحتكارية لهذه القلة، وعن رداءة مواصفات منتجاتها وغلاء أسعارها فى الوقت نفسه، وكانت هذه القلة هى السبب الرئيسى فى إفساد الجهاز الإدارى للدولة، الذى تحول فى نهاية عهد «مبارك» إلى «ظهير» لمافيا حقيقية تغوّلت فى النهب والاستغلال وتحول كل شىء تحت يديها -حتى التعليم والصحة- إلى تجارة فاحشة راكمت منها آلاف المليارات، اقتطعت منها حصة تافهة لرشوة كبار موظفى الجهاز الإدارى ولإنشاء جمعيات خيرية توزع الحسنات على الفقراء فى المواسم الدينية، وفى مواسم الانتخابات البرلمانية!
فى قلب هذا النهب المنظم لعرق الشعوب وثروات البلدان، ظلت الرأسمالية العالمية تحتفظ دائماً برجال أذكياء جداً من أمثال الدكتور الببلاوى يتمتعون عادة بكفاءة نظرية وثقافة واسعة ووظائف مرموقة يقدمون تبريراً منمقاً لهذا الظلم الوحشى طيلة الوقت، ثم يغسلون أيديهم وضمائرهم من وقت لآخر بمقال أو دراسة تعالج الآثار السلبية لهذا التوحش قبل أن يتحول إلى غضب إنسانى عالمى يطيح بالأنظمة التى تدعم هذا التوجه وتحرسه.. ولا تكاد المعالجات تذهب أبعد من تقديم بعض المساعدات للفقراء على اعتبار أن «حسنة قليلة بإمكانها فعلاً أن تمنع ثورات كثيرة».
كنا نعرف كل هذا عن طبيعة الانتماء التى تحكم أداء الدكتور الببلاوى.. ولكننا بعد 30 يونيو كنا على يقين تام من أنه أرحم كثيراً من حكم الإخوان، وكنا على استعداد لقبول «نصف العمى» بدلاً من «العمى الإخوانى الغادر»، والآن راحت السكرة وجاءت الفكرة: هذه المدرسة الاقتصادية التى ينتمى إليها «الببلاوى» فقدت صلاحيتها تماماً فى العالم كله.. إنها المشكلة فى كل معاناة البشرية وليست الحل.. ومن يتابع ما يحدث عالمياً على صعيد الاقتصاد يعرف أن هذه المدرسة تقف الآن بكل مفكريها فى محكمة الضمير الإنسانى.. ويغادر رموزها كرأس الحكم إلى قاعات المساءلة التاريخية. فلماذا نصر على وجود مفكر مرموق من أبناء هذه المدرسة فى أهم منصب تنفيذى فى مصر؟!