المنزل: مكتبة صغيرة مليئة بالكتب.. و«مافيولا» جمعته برفيقة مشوار «الفن السابع»
حجرة المعيشة.. وجدارية للقدس فى الخلفية
درجات قليلة فى ذات البناية العريقة تفصل خلية النحل العاملة، عن محرابه الصغير الذى يمارس فيه طقوسه الإبداعية، ومهربه الدائم إلى عالمه الخاص، فرغم ضيق مساحة هذه الشقة، إلا أنها تتسع على مقدار الأفكار التى ولدت بين جدرانها. الظلام الدامس يبتلع كل شىء حينما تتخطى أعتاب الشقة، الأصوات خافتة والأضواء تحسرها ستارة ثقيلة، عقارب الساعة الخشبية المعلقة على أحد الجدران متوقفة عند الحادية عشرة، تقويم ميلادى يحمل أحد أيام 2006، مثبت على جدار خشبى اصفر لونه بعد تعاقب السنين. تاريخ معلق على كل زاوية من جدران الشقة الواقعة فى الطابق الثانى من العمارة رقم 35 شارع شامبليون، استخدمها «شاهين» على مدار حياته كصومعة يختلى فيها بنفسه كراهب، أو عندما «يتشاجر مع المدام»، بحسب المنتج جابى خورى، فيبتعد فيها عن منزله فى الزمالك، ومكتبه بالطابق الثالث فى البناية نفسها.
«روب» داكن معلق بعناية على الشماعة، ينتظر صاحبه الذى خلعه منذ ما يزيد على 10 سنوات، زجاجة عطر «555» رائحتها نفاذة تملأ نصفها، كتب عديدة تختنق بها المكتبة الصغيرة فى غرفة النوم، نسخة من كتاب «على تلال الله» تعلوها طبقة من الغبار تنتظر منه أن ينفضه عنها ويكمل ملاحظاته المكتوبة بالفرنسية، صورة لشاب خارج من مدرسته يجلس بين أقرانه ويراهن على المستقبل بنظرات شاردة، وفى أخرى كهل يحمل تكريماً كاشفاً عن ابتسامة عريضة ووزير الثقافة يشد على يده مهنئاً، دولاب زجاجى يمتلئ ويفيض بعلب قطيفة حمراء وزرقاء تعود تاريخها إلى سنوات طويلة مضت، تحفظ بين جوانبها جوائز تهنئ صاحبها على براعته السينمائية.
صديقه: كان طاهياً ماهراً وبيعزمنا على وجبات كبدة.. وماتصدقوش اللى بيقولوا عنه عصبى اسألوا عنه الناس فى الشارع
بمجرد أن تلمس الجدران الخشبية يذوب خيالك بين مشاهد متقطعة؛ هدوء كثيف يقطعه صوت يد تتحرك على الورق بميكانيكية شديدة، يصارع ليكتب كل الأفكار التى تطرق ذهنه، فالإلهام عنده غير محدد بفترة معينة، سيجارة تتدلى من فمه ناسياً وجودها، يقع رمادها على أوراقه التى غلب فيها السواد بياضها، ينفضها سريعاً ويسرح فى ملكوته فيتخيل إبداعه على الشاشة، حالة من الرضا عن النفس لا تحدث بسهولة، بعدها يتحرك إلى الـ«كاسيت» ويديره فتنساب الموسيقى إلى وجدانه، يتحرك على إيقاعها ببراعة شديدة فيتحول هو نفسه لمقطوعة موسيقية تتراقص برشاقة على قدمين.
لحظات تأمل نالت منه أمام المكتبة الخشبية التى تتزاحم على رفوفها العالية، صور بالأبيض والأسود تضم فى ظلالها فترات مضت، وتحمل جزءاً من ملامح والدته فى شبابها كان مولعاً بالنظر إليها، صورة أخرى تعود إلى الإسكندرية يرتدى فيها بنطالاً قصيراً يكشف عن ساقين نحيلتين، ووجه طفولى لم يعلم صاحبه أنه سيكون علامة فى تاريخ السينما، يقف بين شقيقته الطفلة وهى ترتدى فستان زفاف، وعلى صدرها صليب ضخم، وبين شقيقه «ألفريد» الذى رحل عن الدنيا بعد سنوات من تاريخ التقاط تلك الصورة.
ساعات طويلة يقضيها عند الآلة العملاقة التى تبتلع جزءاً كبيراً من غرفة جلوسه الضئيلة، بخلاف الـ«مافيولا» أو مصنع السحر التى يقطع عليها شريطه السينمائى ويعيد تركيبه مرة أخرى بشكله النهائى، برفقة المونتيرة رشيدة عبدالسلام، أو «شوشو» كما يناديها، أعمال كبرى ومهمة جمعتهما منذ «الناصر صلاح الدين» وحتى «إسكندرية نيويورك»، حتى الموت جمع بينهما فغادرت بعد «جو» بأشهر قليلة، وذلك وفقاً لرواية مجدى عبدالرحمن الذى عاصر يوسف شاهين عن قرب على مدار سنوات حياته، بحكم عمله كممثل فى عدد من أعمال «شاهين»، وانضمامه إلى فريق الإنتاج بالشركة.
يستنشق «عبدالرحمن» نفساً طويلاً قبل أن يستدعى الأحداث التى جمعته بـ«شاهين» من الذاكرة، فانفعالاته تظهر بوضوح عندما يتعلق الأمر بـ«الأستاذ»، الذى لم ير أحداً من بعده يستحق لقبه، «فيلم (فجر يوم جديد) كان بداية العلاقة التى جمعتنى بالمخرج الراحل، الذى احتل المركز الثانى فى حياتى بعد والدى، فقد تعاملت معه منذ كنت فى السادسة من عمرى وحتى بلغت الـ53 عاماً، قضيت حياتى معه، كنا أسرة واحدة بمعنى الكلمة، وكنت أبيت فى منزله لأيام، مثلت معه فى الفيلم وأنا طفل برفقة شقيقى سيف عبدالرحمن، وبعدها التقينا فى مجموعة من الأعمال قبل انشغالى بالدراسة، وفى أثناء تلك الفترة لم تنقطع العلاقة الإنسانية بيننا، وبعد (إسكندرية ليه) اخترت العمل معه فى إدارة الإنتاج بالشركة».
«ماتصدقوش اللى بيقول عليه نرفوز وعصبى.. اسألوا الناس فى الشارع تحت»، قالها بحدة ليبرئ ساحة صديقه الذى لم يعد موجوداً فى حياتنا، يقسم إنه لم يقابل إنساناً مثله فى طيبته وأخلاقه، فالانفعال كان حاضراً فى وقت العمل فقط عندما يجد أخطاء، ولكن الأمر مختلف فى حياته اليومية التى اعتمد فيها روتيناً واضحاً اتبعه على مدار سنوات.. «من التاسعة صباحاً وحتى الثانية ظهراً هو الموعد المحدد الذى يوجد فيه بالمكتب، يعود إلى منزله فى الزمالك لتناول الغداء وقضاء فترة للراحة، ثم يعود مرة أخرى من الخامسة وحتى التاسعة مساء، وكان يستقبل الأصدقاء على مدار اليوم، حيث كان يزوره محمود المليجى وعزت العلايلى ويسرا، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الفنانين».
الكتابة لدى «الأستاذ» ارتبطت بأوقات وطقوس معينة كشفها «عبدالرحمن»: «الفترة من الثالثة حتى الخامسة فجراً هى التى يزوره فيها الملاك المكلف بالوحى، بينما كانت طاولة الطعام فى شقة «شامبليون» هى المكان المفضل للكتابة دائماً، ولم يكن مسموحاً لأحد بأن يقطع خلوته فى آخر عشر سنوات، عندما نقل مقر إقامته لها».
وجوده فى الشركة منحه فرصة الاقتراب من «الأستاذ» بصورة أفضل، فكان شاهداً على حالة الشد والجذب الدائمة بينه وبين الرقابة، ويروى: «كانوا متخوفين دائماً من أفلام (شاهين) حتى قبل قراءتهم للسيناريو، أما هو فكان جيداً فى التفاوض إلى أبعد حد، وعندما كان يرغب فى تمرير أمر كبير فى الفيلم، كان يضع نقطة صغيرة ممكن أن يعترضوا عليها، حيث يتفاوض معهم بشأنها ويحذفها، ليحافظ على الجزء الذى يريده من البداية».
جانب آخر فى شخصية «جو» كشفه بقوله: «كان طاهياً ممتازاً لم يتوقف حسه على تذوق الفن بل الطعام أيضاً، وكانت «الملوخية» وجبته المفضلة، وله تجارب فى الطهى هنا، فكان يجيد عمل «الكبدة» حيث طبخها أكثر من مرة، وكان يطلب من العاملين فى المكتب مشاركته تلك الوجبة، فالطهى بالنسبة له كان مزاجاً شخصياً».
«التدخين» هو الذى اغتال يوسف شاهين وفقاً لروايات المقربين منه، حيث خضع لثلاث عمليات قلب مفتوح أجراها الدكتور مجدى يعقوب، وهو ما أضر رئته وحركته بشكل بالغ، وبحسب «عبدالرحمن»: «كان يدخن 4 علب سجائر فى اليوم، أما عامل البوفيه فكان يشكو من تحايل «جو» عليه، فعندما كان يأمره الطبيب بالتوقف عن التدخين لمدة 3 أيام، كان يؤكد له أنه توقف بالفعل، ثم يطلب منه شراء علب سجائر».
اختفت ابتسامة الحنين المرسومة على وجه «عبدالرحمن» بمجرد تذكره فراق صديقه: «يوم وفاته.. يا الله، أنا كنت أعرف أن هذا اليوم سيأتى بسبب تدهور حالته الصحية، ولكن تقبل هذا الأمر كان الأصعب». يغمض عينيه ليستحضر صورة صديقه الراحل أمامه: «أراه فى كل مكان.. ألمس وجوده حولى فى المكتب والشقة، أرى صوره وتعليقاته الساخرة، أعيد على مسامعى كلماته، أقسمت على نفسى البقاء فى شركته».
«شاهين» مع شقيقيه
جوائز «شاهين»
مع «ماجدة» فى أوروبا
فراش صغير فى إحدى الغرف