الاحتجاجات التى شهدتها باريس وبوردو ومارسيليا وغيرها من مدن فرنسا، التى لم تزل متواصلة منذ 3 أسابيع، تقدم لك صورة للكيفية التى بدأ بها فقراء الشعوب يواجهون «دولة العولمة»، التى يجلس على قمة حكمها الشركات متعدّدة الجنسيات. هذه الشركات أحدثت تحولاً كبيراً فى طبيعة ومفهوم الدولة المعاصرة. أظن أن تعبير «الدولة الشركة» هو الأكثر دلالة على طبائع الدول فى عصر العولمة، ووصف رئيس مجلس الإدارة قد يكون الأدق فى تحديد هوية القيادات التى تتصدّر المشهد داخل العديد من دول العالم.
«الدولة الشركة» قد تمتاز برئيس مجلس إدارة يعرف كيف يدير مقدراتها ويأمن شر انقلابات جمعيتها العمومية (المواطنون)، فيُتحفهم ببعض المكاسب الصغيرة بين حين وآخر، حتى لا يواجهه أفراد الجمعية بما لا يحب، وهو فى الوقت نفسه يتعامل مع الجمعيات العمومية للشركات «الدول» الأخرى بمنطق مختلف، إذ يحاول أن يحصد منها المكاسب دون الارتكان إلى أى قواعد قيمية أو أصول تجارية، فسياسته جزء من توجه الدول العابرة للجنسيات التى لا تتورع عن نهب الشعوب والسيطرة على مقدراتها، غير آبهة بالضحايا الذين يسقطون هنا أو هناك نتيجة سياساتها. «ترامب» نموذج لرئيس مجلس الإدارة الذى يعرف كيف يُرضى جمعيته العمومية الأمريكية، وكيف يستنزف الجمعيات العمومية الأخرى للدول بسياسة التاجر الفهلوى.
فى المقابل، من النموذج الترامبى، يظهر رؤساء مجالس إدارات آخرون يبدون نوعاً من العجز عن إشباع متطلبات الجمعية العمومية التى اختارتهم، فتفور ضدهم الاحتجاجات وتتصاعد الأصوات المطالبة بتغييرهم، كما يحدث الآن فى فرنسا. ليس فرنسا فقط، فقد زحفت الاحتجاجات إلى بلجيكا وهولندا، وها هى ألمانيا تدخل على الخط بإضراب سائقى القطارات بهدف زيادة الأجور. الواضح أن أغلب من يقومون بالاحتجاجات التى تشهدها دول أوروبية مختلفة الآن ينتمون إلى الشرائح الاجتماعية الأقل دخلاً والأكثر معاناة، من الموظفين الصغار والعمال والحرفيين وسكان الريف، ويؤيدهم فى هذه الاحتجاجات كما تقول استطلاعات الرأى نسبة لا بأس بها من أفراد الطبقة الوسطى. وهى فى المجمل العام تقول إن المواطن الزبون دخل موجة تمرّد ضد رؤساء مجالس الإدارات.
تطور طبيعى لمفهوم «الدولة الشركة». فمع تراجع مفهوم الدولة الراعية، لم يعد المواطن مواطناً بالمعنى المتعارَف عليه، بل أمسى مجرد «زبون» يستهدف مجلس إدارة الدولة الحصول على ما فى جيبه عبر فرض المزيد من الضرائب، التى تؤدى إلى رفع الأسعار وتآكل قدرته الشرائية، ولأن مجلس الإدارة هو الذى علمه «ثقافة الاستهلاك» فمن الطبيعى أن يشعر «الزبون» بالضجر أمام تراجع قدرته الشرائية، بسبب الضرائب التى تفرضها الشركة عليه. فى فرنسا تمثل الضرائب الرافد الأكبر والأهم للدخل القومى. النسبة الأكبر منها تأتى من الفقراء والطبقة الوسطى. وقد صرخ الكثير من المتظاهرين فى شوارع باريس بأن «ماكرون» لا يفرض ضرائب على الأغنياء، تتماثل مع حجم دخولهم وثرواتهم، ويوجّه نظره فقط إلى الفقراء وأفراد الطبقة الوسطى.
احتجاجات فرنسا تحمل فى باطنها نوعاً من التمرّد على فكرة «المواطن الزبون» و«الدولة الشركة»، وصرخات المحتجين تقول إن أغلبهم ينظرون إلى أغنياء العولمة (وكلاء الشركات متعدّدة الجنسيات) كمجموعة من «النبلاء الجدد» ينبغى الثورة عليهم، كما ثار أجدادهم من قبل على «النبلاء التقليديين».