منذ سنوات طويلة اهتديت إلى طريقة خاصة فى الحكم على الآراء السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى يتفضل بها عشرات الكتّاب والإعلاميين الأكثر سيطرة على المشهد الإعلامى المصرى، وهذه الطريقة تتلخص فى مراجعة سريعة لشخصية القائل ومقارنة ما يقوله الآن مع ما قاله قبل شهور أو سنوات فى القضية ذاتها.. وقد أثبتت لى هذه الطريقة أن أغلب ما يقال من آراء حول الوضع الاقتصادى لمصر يفتقر تماماً إلى الدقة ويتسم بالفهلوة، والأهم من ذلك أن هناك «رسالة» يمكن التقاطها بسهولة شديدة فى معظم ما يقوله هؤلاء الكتّاب والإعلاميون.. وهذه الرسالة تتلخص فى أن الوضع الاقتصادى المصرى شديد السوء، وأن مصر فى حاجة إلى «معجزة» لإنقاذها من الانهيار والخراب، وأن سقف آمالنا ومطالبنا ينبغى أن ينخفض إلى الرضا بما هو متاح لسنوات مقبلة، وأن أعظم ما يمكن أن يحققه الرئيس القادم هو مجرد وقف عجلة الانحدار عند المستوى الذى وصلت إليه.. دون أدنى أمل فى تحسين شروط الحياة.
والمهم فى هذا الطرح السياسى والاقتصادى الذى تتبناه هذه الكتيبة من الإعلاميين أنه اندلع فى توقيت واحد تزامن تماماً مع التأكد من أن المشير عبدالفتاح السيسى سيطرح نفسه مرشحاً لمنصب الرئيس، حتى بدا الأمر وكأنه «فرح» سارع هؤلاء إلى حضوره، ثم راحوا يصعدون تباعاً إلى خشبة المسرح لتقديم «النقوط» اللازم، فإذا بهذا «النقوط» يتشابه إلى حد التطابق الكامل: «مصر بلد فقير ولا أمل فى إنقاذها إلا فى تخفيض سقف المطالب والصبر طويلاً على كل المآسى التى يرسف المواطنون فى أوحالها.. وإلا لن نحصد غير مزيد من الخراب».
والخطورة الحقيقية فى هذا «النقوط العشوائى» لا تكمن فقط فى أنه لا يستند إلى معلومات مؤكدة أو قواعد بيانات سليمة وشفافة، ولكنها تكمن فى أنها تدفع المواطنين إلى اليأس المطبق من صلاح أحوال المعيشة وحالة الخدمات والحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وتغلق فى وجوه الجميع أبواب الأمل فى تحسين شروط الحياة، والمؤكد أن هذا الإلحاح الرخيص والغبى على فكرة انسداد مسالك الأمل، هو الوصفة الساحرة والعاجلة لتخريب هذا البلد والدفع بمواطنيه إلى حضيض ليس له قاع.
والمفارقة العجيبة أن أفراد كتيبة النفاق الذين يصرخون ليلاً ونهاراً بأفكار تافهة ظناً منهم أنهم يمهدون الأرض للمشير السيسى، لم ينتبهوا إطلاقاً إلى أن الرجل كان شديد الحرص فى البيان الذى وجهه إلى الشعب، على الأمل فى النهوض بالوطن، والأمل فى التقدم، والأمل المقترن بالعمل الجاد الذى يقود حتماً إلى الخروج من الحالة الراهنة التى اتسمت بمعاناة شديدة لمعظم المواطنين.
الأهم من كل ذلك، أن هؤلاء المنافقين الذين تضاعفت دخولهم ومكاسبهم خلال سنوات الريبة التى بدأت عقب 25 يناير 2011 ظلوا لعام كامل أثناء حكم الإخوان يرددون كلاماً كثيراً عن إمكانات مصر المدهشة والرائعة التى لم يستطع الإخوان إدارتها أو استثمارها، والحقيقة التى لا يدركونها هى أن مصر غنية فعلاً بمواردها وشعبها وموقعها، وأن كل ما نعانيه من أزمات يعود إلى تدنى كفاءة مؤسسات الدولة وعجزها عن استثمار موارد هذا البلد، وإلى شيوع الفساد وغياب العدالة وسوء توزيع الثروة، ومجىء حاكم قوى وعادل لديه إدراك بقيمة وأهمية هذا البلد هو الضمان الوحيد للتحرك من مستنقع الخراب الذى نعيش فى أوحاله الآن، نحو آفاق التقدم والنهوض والاستقرار.