"الوطن" بصحبة الشقيانين تحت المطر.. سائقون وعمال صرف صحي و"دليفري"
إيناس: إحنا في الأوتوبيس أسرة مع بعضينا تحت المطر
الشقيانين تحت المطر
يجرون في كل الاتجاهات، تكسو وجوههم ملامح الحيرة والقلق، يحمل كل منهم تساؤلات حول جدول مواعيده الذي قد يتأثر بالتأخير أو الوقت الكافي لاستذكار الدروس، فيجد كل منهم في الجري نحو أول سيارة "ميكروباص" يلتقيها منفذا له من الأمطار التي تسقط متسارعة فوق رأسه، ولكن تلك السيارات الصغيرة لم تتوافر بها الأماكن الكافية لاستيعاب الأعداد المهولة من الموظفين والطلاب ممن أنهوا عملهم أو محاضراتهم للتو، فيضطر البعض للانتظار طويلا.
على الرغم من الخوف الشديد الذي يعيشه سواق الـ"ميكروباص" أو الأوتوبيس في هذه المواقف، من تأثر سيارته بالأمطار أو تأثير الزحام عليها، أو حتى خوفهم على أنفسهم من التواجد في مثل هذا الطقس، إلا أن بعضهم أصر على التواجد في نقاط التجمع و"المواقف" للقيام بعملهم على أكمل وجه رافعين شعار "يوم المطر يوم عادي".
بين سيارات الميكروباص والميني باص بموقف عبدالمنعم رياض، قضى المواطنون لحظات خارجة عن روتينهم اليومي محاولين تفادي الأمطار، فلجأ المتجهون منهم إلى مدينة السادس من أكتوبر إلى أوتوبيس مواصلات مصر الذي يحمل اسم "إم 10" باعتباره "الحل الغالي اللي مش هيكون فيه زحمة" على حد وصف أحد المتدافعين نحو الأوتوبيس طمعا في دقائق من الراحة بعد عناء الجري تحت الأمطار، ولكن الوضع لم يكن مختلفا في أرجاء ذلك الأوتوبس حيث طاله ما طال كل المواصلات العامة، اليوم، من زحام، فامتلأ ممره بالركاب الواقفين ممن تبادلوا الهموم والمخاوف، ولم يكن يعلم أي منهم أن ذلك المشوار اليومي الذي لا يتجاوز 45 دقيقة سيكلفه 120 دقيقة، عايشتها "الوطن" بين الركاب الذين تحولوا بنهاية الرحلة لما وصفته إحداهن بـ"إحنا بقينا عيلة خلاص".
في مقصورة القيادة، خلف جهاز الآيباد الذي يرشده إلى الطريق الصحيح والتوقيت المتوقع للتوقف في كل نقطة، جلس كابتن مسعد سعد مركز نظره على الطريق والزجاج الذي تخفت شفافيته شيئا فشيء بفعل الأمطار فينظفها باستمرار ويطمئن المارة بعبارات "الطريق هيمشي دلوقت" ويخلق روح الدعابة ويحاول قتل الملل الذي حملته مشاعر الركاب بكلمات "أهيه فرصة ندعي تحت المطر"، حيث يختلف اليوم عن رحلاته اليومية حيث الجو الطبيعي حيث ينسق مع زملائه بحيث يتواجد أوتوبيس كل ثلث ساعة في نقاط التجمع "لكن أمطار النهاردة أخرتني ساعتين إلا عشرة".
"الركاب مقدرين ظروف الجو واللي بيحصل وعارفين إنه مش بإيدينا"، قالها "مسعد"، لـ"الوطن"، معبرا عن الثابت الوحيد في ذلك اليوم المختلف حيث كان احترام الركاب له وفخرهم به ودعائهم له أثناء القيام بمهنته من اللفتات الجميلة التي وصفها بـ"بتهون تعب اليوم"، حيث تكاتف الركاب رغم ضيق المساحة مساعدين بعضهم على قضاء وقت أكثر تحملا.
لم تنته البطولة في الأوتوبيس عند مقصورة "كابتن مسعد"، حيث شهدت الصفوف المتزاحمة بطولات إنسانية أخرى لم تتأثر بفعل الملل أو الإرهاق، فبين ظهري مقعدين وجدت رضوى جمال الطالبة بكلية طب الأسنان جامعة القاهرة، مكانا يمكنها الجلوس فيه، ولكنها لم تكتف براحتها فأخذت تحاول مساعدة الركاب الواقفين فتحمل شنطة إحداهن على قمها ومعطف الأخرى، ثم تترك ذلك المكان الصغير الذي وجدته لتتبادله مع أحد الوقوف، حيث جعلتها رحلتها الأطول من المعتادة اليوم حيث انتظرت واقفة لمدة ساعة بعد يوم دراسي طويل، أكثر شعورا بالركاب.
رحلة اليوم تختلف عن رحلة كل يوم بالنسبة لرضوى، حيث اعتادت استقلال نفس الأوتوبيس يوميا ولكن في وسط أعداد أقل من الركاب، وفقا لما روته لـ"الوطن"، معبرة عن أنه بالرغم مما في الرحلة من إرهاق ورغبتها في إيجاد حل للزحام إلا أنها وجدت مناخا جديدا اختارت الاستمتاع به، "نمنا وأكلنا وقضينا اليوم في الطريق"، تقولها "إيناس زاخر" إحدى ركاب الأوتوبيس التي قضت يومها في أحداث غريبة ومشوار غير معتاد فرضته عليها الظروف المناخية إلا أنها قررت رؤية الجانب المضيء الذي وصفته بحص دعابة "إحنا أحسن من غيرنا إحنا هنا أسرة مع بعضينا" مقارنة حالها بحالة فريق الزمالك الذي استيقظت من غفوتها الصغيرة على أحد المقاعد لتفاجأ بخبر انتقال لاعبيه عن طريق المترو نظرا للزحام ما جعلها تسخر من ذلك اليوم الخارج عن السياق الروتيني، وفقا لما روته لـ"الوطن" لم ينه النزول من الأوتوبيس رحلة البطولات، ففي الوقت الذي ألقى فيه بعض الركاب اللوم في التسبب في الزحام على تقاعس عمال الصرف الصحي، وجدوا هؤلاء العمال، باختلاف أعمارهم، يعملون في مجموعات بميدان الحصري، يفتحون بلاعات المياه ويحاولون تصريف المساه عن الأرصفة والطرق.
جمال جمعة، أحد العاملين بالصرف الصحي، وقف يساعد زملاءه في تصريف المياه ولسان حاله "بنحاول نصرف المياه ونقوم بشغلنا وربنا يسترها"، بينما يقول صديقه على أحمد لـ"الوطن"، إن الأيام العادية عادة ما تكون مريحة بعض الشيء ولكن أيام الأمطار والسيول دائما ما تكون مرهقة حيث يقومون بمحاولات تسليك البلاعات مستخدمين أدوات متخصصة تمكنهم من تصريف المياه بسرعة لتسهيل الحركة المرورية على السائقين ومساعدة المارة على المشي دون صعوبة.
لم تغب سيارات أوبر عن المشهد، فتواجد الكابتن وحيد سعد بسيارته ينتظر الطلبات، فيقول لأي من أقاربه ممن ينصحونه بقضاء مثل هذه الأيام الممطرة في المنزل: "الناس محتاجة أوبر في الأيام دي أكتر من الأيام العادية"، حيث لا تختلف الأيام سيئة الطقس في قاموسه عن الأيام المشمسة فكلهم يتطلب منه أداء عمله على أكمل وجه.
"مش أكتر من الواجب"، عبارة يردده كابتن وحيد كلما أشاد احد الركاب، اليوم، بموقفه وسعة صدره خاصة مع اتساخ أقدام الركاب في كثير من هذه الأوقات، فيروي، في حديثه لـ"الوطن"، أن معيار كفاءته هو تقييم الركاب له على التطبيق الخاص بالشركة وهو ما لن يستحقه إن لم يقم بذلك الواجب الذي يتقاضى عنه أجرا.
خلفه "بوكس" يحمل فيه الطعام موصلا إياه لعملاء أحد المطاعم الشهيرة بمدينة السادس من أكتوير، هكذا يبدو أحمد شعبان، الذي يعمل "طيار دليفري"، فيسير على دراجته البخارية "الموتوسيكل" بسرعة كبيرة، مغطيا رأسه بالخوذة يحمل الطلبات غير مهتم بالأمطار الغزيرة التي تنهال فوق معطفه، فيصف دوره بـ"واجب لازم أقوم بيه" حيث ترتفع قيمة هذا الواجب في عينيه في أوقات الأزمات تحديدا ليصفها الشاب العشريني بـ"الوقت اللي مش بشتغل فيه عشان الفلوس ولكن عشان مغترب معندوش أكل".
"لو سمحت ممكن حضرتك تنزل تاخد الأوردر بسرعة"، كلمات قليلة يقولها "شعبان" لكل عميل حيث يتتصل به قبل الوصول إلى وجهته بدقيقتين ويطلب منه أن يجنبه الانتظار تحت الأمطار، فيجد من العملاء التشجيع والتقدير على موقفه، فيروي شعبان لـ"الوطن" أن قبل أشهر في بداية الشتاء وتزامنا مع تساقط الأمطار الغزيرة، كان يحمل طلبا لأحد العملاء عندما فرح به العميل جدا وأصر على التقاط صورة "سيلفي" معه في الشارع.