مشهد رقم (1)
بعد مقتل الرئيس السادات هلل البعض وكبّروا وفرحوا، وخاصة أسر الذين قُبض عليهم فى التحفظ، ومعظمهم كانوا من الإسلاميين والاشتراكيين والناصريين، وبعد فترة تحولت فرحتهم إلى أحزان متواصلة بفقد واحد من أفضل رؤساء مصر، والوحيد الذى هزم إسرائيل فى معركتَى الحرب والسلام، والذى دشن المرحلة الشاقة فى تطوير مصر اقتصادياً وتحريرها من أعباء الحرب الطويلة التى رزحت فيها وعطلت البناء الداخلى لمصر.
هذه الفرحة تبددت بعد أن بدأت آلة التعذيب فى الدوران ومعها قانون الطوارئ وضياع كل الحصاد الدعوى، فالعنف والإرهاب والدماء لا مردود لها سوى ثلاثة هى السجون والتعذيب والإعدامات، هذه هى خلاصة عمرى.
لقد أعطى السادات قبلة الحياة للحركة الإسلامية فمنحته قبلة الموت، وبعد سنوات طويلة أدرك الجميع أنهم أضاعوا رئيساً متمرساً حكيماً غير عجول رفيقاً كارهاً لحشر الآلاف إلى السجون لأنه ذاق ذلك فى صباه.
يفرح الناس بأشياء ثم يدركون بعدها سذاجة ومراهقة وطفولية فكرهم، وأن فرحتهم كانت وليدة لحظة عاطفية تافهة لم تخضع يوماً لمقاييس الشرع والعقل والحكمة.
مشهد رقم (2)
بدأت أحداث 11 سبتمبر وكأن كائنات فضائية ارتطمت بكوكب الأرض فهزته وزلزلته، ولم تصطدم فقط ببرجَى التجارة بنيويورك، وذلك بعد قيام مجموعة من «القاعدة» بخطف طائرات مدنية اصطدمت بالبنتاجون وبرجَى التجارة.
هزت الأحداث أمريكا التى بدت مضطربة مذعورة فى البداية مثلما حدث فى «بيرل هاربر»، ثم تماسكت وتغولت.
بدأ الكثير من الشباب المتدين يسجد شكراً لله مهللاً ومكبراً، فرحاً بالنصر المزعوم الذى حققته «القاعدة» على أمريكا.
كان معظمهم لا يعرف شيئاً عميقاً عن الدين والسياسة وفقه المآلات وتاريخ تدحرج الأحداث وسنن الكون وسنن غير المسلمين فى بلاد غيرهم، قلت لهم يومها: مهلاً، إنها الكارثة بعينها التى أتت على الإسلام وبلاده والمسلمين، إنها أخطر من «بيرل هاربر» لأنها ضربت أمريكا فى عقر دارها وقتلت ثلاثة آلاف مدنى لا ذنب لهم وهذه جريمة فى حد ذاتها.
نظر هؤلاء إلى نشوة نصر كاذب، فرحوا بمشاعر طفولية كانت تتشفى من الإمبراطورية الأمريكية الظالمة.
لم يتصوروا أن أمريكا ستنطلق كالثور الهائج دون عقل أو حكمة، وأن هذا الحادث وضع الإسلام والمسلمين والعرب ودولهم فى مواجهة مع أمريكا والغرب لا يريدونها ولا يرغبونها ولم يكونوا مستعدين لتبعاتها الجسام، وأن سقوط برجَى التجارة سيعقبه سقوط برجين إسلاميين عظيمين هما كابول وبغداد، وأن الثلاثة آلاف مدنى الذين قُتلوا غدراً بفعل حماقة «القاعدة» سيدفع ثمنهم قرابة مليونى قتيل وجريح ومعوق فى أفغانستان والعراق.
لقد ضربت «القاعدة» ضربتها انطلاقاً من أفغانستان دون إذن أو علم حكومة أفغانستان، لأنها كانت دولة داخل الدولة تصنع ما تشاء وتخرق ما تشاء من قواعد فقهية أو إنسانية أو استراتيجية.
والذى دفع الثمن هو الشعب الأفغانى، فقد هرب معظم قادة القاعدة من أفغانستان فارين بأنفسهم إلى باكستان وإيران وغيرهما، تاركين الشعب الأفغانى المسكين فريسة للطائرات الأمريكية والشراك الخداعية والألغام الأمريكية التى خلفت ربع مليون معوق أفغانى.
كل ذلك ولم نتعلم سُنّة الإسلام والمسلمين فى ديار غيرهم من درس المهاجرين الأوائل إلى الحبشة، فقد قدموا نموذجاً فريداً للمسلمين إذا لجأوا إلى بلاد غيرهم، فإذا منحتهم هذه البلاد أماناً فعليهم أن يبادلوها بأمان مقابل، وعلى الجميع مطالعة ما فعله هؤلاء المهاجرون.
لقد خرق محمد عطا ورفاقه سُنن الإسلام والمسلمين فى ديار غيرهم التى سنَّها مهاجرو الحبشة.
مشهد رقم (3)
أعلن أبوبكر البغدادى من منبره فى الموصل إعلان الخلافة وفرض على جميع الجماعات الانضمام تحت لوائه بعد أن حققت ميليشياته تقدماً سريعاً فى جبهات عدة فى سوريا والعراق.
هلل بعض الشباب المتدين لذلك وكبّروا، فهم لم يفهموا حقيقة الخلافة الراشدة التى عاشها أمثال أبوبكر وعمر، ولم يدركوا مغزى كلمات الفاروق «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أماتهم أحراراً»، فالحرية يكتسبها الناس وهم فى أرحام أمهاتهم مهما كانت أديانهم وأعراقهم وألوانهم، إنها خلافة الصدق والرحمة والعدل السياسى والاجتماعى وتصدير الحضارة لا تصدير العنف والإرهاب والدماء والذبح.
ورغم ذلك حدث الانبهار الكاذب من بعض الشباب المتدين بالنموذج الداعشى مكررين مأساة «القاعدة»، وكأنه كُتب على شباب المسلمين أن يُلدغوا من الجحر الواحد مئات المرات، وألا يتعلموا من دروس الماضى، وأن يكرروا المآسى باستمرار.
انتهت «داعش» بعد أن قُتل وشُرد وسُجن الآلاف منها، وبعد أن قتلوا وشردوا وذبحوا المئات من خصومهم.
مشهد (4)
جاء الطالب الشيشانى ليذبح المدرس الفرنسى الذى أساء للنبى، الإساءة للنبى جُرم عظيم، ولكن نصرة النبى بالذبح والقتل لا يقرها النبى نفسه، هى تسىء للنبى والإسلام أكثر مما تنصره.
هذا الشاب لا خبرة له ولا علم وعمره وخبرته لن تدرك معانى الإسلام الشاملة، لكن المشكلة فى الآلاف الذين هللوا وصفقوا له فى مواقع التواصل الاجتماعى فشجعوا غيره على تكرار فعله وبعضهم للأسف جاوز الخمسين دون أن يستفيد من تجاربه.
وقد أدى هذا التشجيع إلى تكرار هذا الفعل وقتل ثلاثة فى إحدى الكنائس الفرنسية، مما أضر بالإسلام والمسلمين فى فرنسا، وقلب الطاولة على مسلمى فرنسا الذين وقعوا بين قطبَى الرحى: العلمانية المتطرفة السوداء الكارهة للنبى، وحاملى الخناجر الذين يذبحون الناس.. وكلاهما آثم، ولكن كما يقول الناس فى الصعيد «الدماء تُنسى ما سواها»، فقد نسى الغرب جريمة الإساءة وتذكروا الدماء، لأنهم لا يعرفون «النبى» أصلاً ولا يوقرونه وكذلك «معظم الأنبياء»، فهم جهلة بالرسل ورسالاتهم، والجاهل يُعلَّم ولا يُقتل، وهؤلاء أحوج ما يكون لأن يروا وجه الإسلام الحسن، وأن نضرب لهم نماذج مشرفة فى التحضر الإسلامى والإنسانى، وليست هناك دولة واحدة على وجه الأرض تقدم هذا النموذج.
نريد أن نقدم الإسلام لهم غضاً طرياً نابضاً فتياً رحيماً ودوداً، لنكون من أهل «ألا هل بلغت، اللهم فاشهد».