لن نسامح أنفسنا ما لم نظل ندق نواقيس الخطر ونحن نكتوى بأوجاع تراجع القيم وأنماط السلوك القويم بشكل مروع يوماً بعد يوم، فكم سالت دماء على ثياب كل المعانى القيمة وكأن مجتمعنا يقف على حافة الهاوية؛ وفى محاولة الإجابة عن سؤال جوهرى هو: ما الذى أوصلنا إلى هذه الحالة؟
هل هى الحياة وتطوراتها وما صاحبها من ظروف جديدة؟ أم هو الانفصال عن الماضى والتعلق بالتطوير والتحديث متناسين أنه يجب أن يكون ذلك مبنياً على موروثنا من القيم والمبادئ والسلوك القويم لا التنكر له والتبرؤ منه؟
أم هو نتاج معطيات ثقافتنا الحياتية المغلوطة التى أماطت عن حياتنا خلق الإيثار وأن يحب المرء لأخيه ما يحبه لنفسه، ليحل محله خلق سيئ من الأثرة وتغليب المصلحة الشخصية المتمثلة فى المقولة العوجاء «أنا ومن بعدى الطوفان»؟
أم أن نيران الفيس بوك -التى صرنا مواقعيها ولا نجد عنها مصرفاً- تلحف أفكارنا وعاداتنا مما أودى بنا إلى صدأ القلوب وسفه وعته العقول والانصراف نحو سلب القوامة الأخلاقية؟ أم من هؤلاء الذين دخلوا علينا فطبقوا أفكارهم التى اكتسبوها من الخارج أو قرأوها فى كتاب؟ أم هى الأعمال الفنية الموبوءة التى تسكب علينا واقعاً مريراً بعيداً عن مجتمعنا، وجعلت البعض يتحسر على حاله فتحول هذا إلى شعور بالقهر نتجت عنه أساليب من الشر والعنف؟
أم إلى عجزنا عن فهم الحرية الشخصية التى تحكمها ضوابط محددة فانطلقت بنا إلى اتساع فى فجوة الاختلافات ونجمت عنها زيادة مساحات الصدام وتضارب المصالح مما أدى إلى المزيد من الحقد والغضب والكيد المتبادل؟
أم وصلنا إلى المرحلة التى اختل فيها التدين المغروس فى أعماقنا فأخذتنا العزة بالإثم بعد أن زُين لنا سوء الأعمال فرأيناه حسناً؟ هذه الحالة التى وصلنا إليها نحتاج لتشريحها وتعليلها وهى ليست مسئولية الدولة فقط وإنما هى مسئولية جماعية تضطلع بها الدولة والنخب الثقافية والمواطنون من خلال حالة ذهنية جديدة لها رؤية دينية ودنيوية تستدعى أصل الفطرة المصرية التى ترعرعت.. وهى ترتوى شراب النقاء، وتأكل لقيمات الالتزام وتظل تقبع داخلنا كملاك حارس أمين يعد طوق النجاة، وينقذنا من أى خطايا أو أفعال تعصف بمسيرتنا الخيرة فى الحياة فتخرجنا من هذا المأزق.
وفى قضية إعادة بناء الإنسان المصرى أقترح ما يلى:
أولاً: ضرورة أن تتضمن المناهج مقررات عن الأخلاق ومبادئ الآداب العامة وأن تدرس نظرياً وعملياً كما تفعل المدارس اليابانية فى مراحل التعليم الأساسى التى تشجع الأطفال على تنظيف فصولهم فور وصولهم وبناء الشخصية وحب الأسرة والوطن والرياضة واحترام قواعد المرور وقبول الآخر واحترام اختلاف الآراء وزرع روح الابتكار والإبداع، وأن تكون هذه المقررات إجبارية.
ثانياً: تشجيع الأطفال وتلاميذ المدارس على حرية الفكر وعرض وجهات النظر والآراء فى القضايا الاجتماعية المختلفة وفتح مناقشات داخل الفصول لطرق الحلول السليمة لهذه القضايا فتشجع الأبناء من نعومة أظفارهم على تكوين الشخصية والبحث والشجاعة فى عرض الرأى والفكر بطلاقة.
ثالثاً: ضرورة أن يخصص الأب والأم وقتاً لأبنائهما، وعدم السماح أن يكون الأصدقاء هم الذين يرسخون القيم لدى الأبناء، وقد أعجبنى قول أحد الفائزين بنوبل فى الآداب إنه يخصص كل يوم ساعتين لتبادل الآراء والخبرات والأفكار الإيجابية مع أبنائه الصغار قبل النوم لتشجيعهم على القراءة وعشق العلم واحترام القواعد العامة والأخلاق والعائلة بدلاً من إضاعة الوقت على الألعاب الإلكترونية والشات فى برامج السوشيال ميديا.
رابعاً: ضرورة أن تقوم الدولة بدور أكبر فى الدفع ببرامج تثقيفية وتسويقية وتعليمية عن كارثة الزيادة السكانية فى مصر، فلا توجد دولة بها هذه الزيادة الكبيرة فى التعداد السكانى مثل مصر حوالى (2٫6 مليون طفل) كل عام، خاصة أن معظم هذه المواليد لأسر فقيرة ومتوسطة المستوى مما يدفعهم لترك أبنائهم ببيئة الشارع وعدم الاهتمام بتعليمهم وتثقيفهم وظهور ما يسمى «جيل التوك توك» وأطفال الشوارع وغيرهم.
خامساً: لا بد أن تعمل وزارتا الشباب والرياضة، والثقافة، بالتعاون مع الجامعات ومؤسسات المجتمع المدنى والأحزاب على الدلوف إلى الأحياء الشعبية والقرى والنجوع -التى أصبحت تسيطر عليها أغانى المهرجانات وثقافة أفلام العنف- بكل أسف وغيرها لمخاطبة الشباب وجهاً لوجه فى القضايا التى تهمهم، وكذلك الوصول إليهم من خلال قنوات الإعلام الإلكترونى -التى يتابعونها أكثر من برامج التليفزيون- ومخاطبتهم بلغتهم البسيطة حول قضايا السلوك العام واحترام الآداب العامة والمواطنة وغيرها من القضايا التى تسهم فى محاربة السلبية لديهم، وأهمية بناء الإنسان والوطن داخلهم على حد سواء.
ولعل فى هذه المنظومة ما قد يوقف هدير الانهيار السلوكى والأخلاقى ويعود بمجتمعنا المصرى إلى جادة الصواب من الخلق الطيب والسلوك القويم الذى بينته لنا شريعتنا السمحاء وفرضت العمل به ودعت إليه كل الشرائع السماوية الأخرى.