متابعة الانتخابات الرئاسية الأمريكية كلها مميزات وفوائد. ورغم أنها تبدو مميزات وفوائد متفاوتة الأحجام ومتراوحة الآثار، إلا أن جميعها مفيد. بداية شجعتنا المنافسة الحامية والمثيرة والممتعة على نبذ فساتين الفنانات فى مهرجان الجونة السينمائى الأنيقة، وإذا ما كن سيدخلن الجنة أم النار بسبب مظهرهن وعملهن وأقوالهن، وتركنا هذا الشأن مؤقتاً لرب العباد إلى أن نعود ونتسلم مهام هذا العمل القضائى الشاق فى الحكم على النساء وإصدار الفتاوى الشعبية حول مآل النساء. كما شتتت الانتخابات الأكثر إثارة للجدل والقيل والقال فى العالم تركيزنا بعيداً عن هذه المشاعر التى تعترى بعضنا فتجيش بها الصدور ولا تعبر عن نفسها إلا بزلة لسان هنا أو كلمة تفلت من سيطرة العقل هناك.
جرائم القتل والطعن والذبح وفصل الرؤوس عن الأجساد التى يتم ارتكابها «لرفعة الدين ونصرة المتدينين ودفع الإساءة بعيداً عن نبينا الكريم (صلى الله عليه وسلم)» ما زالت تلقى هوى فى قلوب وعقول ونفوس البعض الغارقين فى فتوحات العصور الوسطى حيث التسلل لشج الرؤوس والاحتفال بسفك دم هنا وفصل رأس هناك، وذلك قبل الوقوع فى حفرة محرقة التاريخ الكبرى وبئس المصير!
متابعة مجريات الانتخابات وأجوائها تنتشلنا من عنادنا المستميت وإصرارنا المميت على أننا نعيش وحدنا على ظهر هذا الكوكب، حيث الغلبة لنا والجنة ملكنا والحقيقة وحيدة يتيمة تقبع فى خزائننا. متابعة هذه الانتخابات تجعلنا نتوقف، ولو لأيام قليلة، عن ترديد أغنيتنا المفضلة التى نرددها بكل حماسة وإيمان ونشاط منذ أيام على بابا والأربعين حرامى: «مين يعادينا؟ مين مين؟ فى أراضينا؟ ها ها! الجبال تحتينا ترتعش من صوتنا، والنجوم بإيدينا، الغابات نسكنها، والوحوش تفهمنا، لما نقرب منها تجرى من قدامنا».
الفاصل الإجبارى الرائع الذى نستمتع به كان من شأنه أن يرحم أجهزة أجسادنا التى ننهكها ونهلكها يومياً بنقاشات عقيمة وانفعالات عميقة وخناقات مميتة حول إذا ما كان الاعتراض على الخمسة ميكروفونات المثبتة على المسجد الملاصق للعمارات السكنية والواقع فى شارع يزخر بما لا يقل عن سبعة مساجد أخرى يباهى كل منها بعدد مماثل من الميكروفونات كفراً بالله والعياذ بالله، أم كراهية للدين، أم هى حرب مستعرة يطلقها أعداء الدين ضد جموع المتدينين!
ومن جموع المتدينين الغيورين على الميكروفونات هنا إلى جموع الناخبين الحريصين على الإدلاء بأصواتهم هناك فى انتخابات رئاسية أمريكية أقل ما توصف به هو أنها «رهيبة»، حيث كل أنواع التصويت الانتقامى والإقصائى والاضطرارى، التى كنا نظن أننا وحدنا الذين ابتلينا بها فى أشهر ما بعد أحداث يناير 2011. والحقيقة أن متابعة كواليس وأجواء الانتخابات هناك، بعيداً عن المنصات الإعلامية التقليدية، عملية بالغة الإثارة والأهمية. فحكايات الأهل والأصدقاء الذين يعيشون هناك تزخر بمعلومات وملاحظات لن تجدها على المنصات التقليدية، سواء تلك المؤيدة لـ«ترامب» أو المعضدة لـ«بايدن». كذلك قراءة التعليقات التى يكتبها الأمريكيون وغيرهم من سكان الأرض على الأخبار المختلفة أشبه بعملية تبصيرية لما يدور فى المجتمع الأمريكى بعيداً عن الخطاب الإعلامى التقليدى والاستوديوهات المغلقة وكلمات المراسلين المنمقة والتى لا يخرج أغلبها عما ينبغى أن يقال، وليس ما يدور فعلياً على أرض التصويت والحراك.
وعلى سيرة الخطاب الإعلامى التقليدى، فإن متابعة الانتخابات الأمريكية على هذه المنصات الغربية، التى تعلمنا، أو كنا نظن أنها الأعلى مصداقية والأكثر حيادية والأعمق مهنية، تؤكد أن الانحياز يمكن أن يكون صارخاً لكن بـ«شياكة»، والتحيز يمكن أن يكون واضحاً وضوح الشمس، ولكن دون هبد ورزع. وهذا لا علاقة له بالقفز إلى المقارنة مع الإعلام المصرى وجميعنا يعرف «إن اللى فيه مكفيه».
ويكفى أننا بهذه المتابعة ابتعدنا قليلاً عن أجواء انتخاباتنا النيابية، التى تقف وحدها فى مكانة مميزة لا تضاهيها انتخابات هنا أو حملات هناك أو أفكار هنا وهناك. وتكفى تلك المكالمات الهاتفية التى نتلقاها لتطلب منا انتخاب فلان. وهذا الطلب من قبَل «الحملة الانتخابية» لا يكون مصحوباً بعرض عناوين البرنامج الانتخابى أو الوعود أو ما شابه!! فقط «رجاء انتخب فلاناً»!!
صحيح أن الانتخابات الأمريكية فجرت ينابيع التحليل الاستراتيجى والتعليل التكتيكى الشعبى لدينا، وهى الينابيع التى تتفجر فى كل كبيرة وصغيرة لتفسر للعالم ما قد يستعصى عليه فهمه، إلا أنها تظل عملية متابعة مسلية لا تخلو من كوميديا وترفيه. ومع الكوميديا والترفيه توجد كذلك متعة كبيرة فى الفرجة على تقنيات الفرز والمتابعة عبر الخرائط التفاعلية وإعلان النتائج، بينما تتم عمليات الفرز ومد المتابع بالمؤشرات وما تعنيه تلك الأرقام والنسب المئوية عبر تقنيات معلوماتية وليس «صراخ توك شو ليلى» أو «هبد تعليلى نهارى».
المؤكد أن المتابعة متعة ولو كانت من على مقاعد المتفرجين.