مسألة اختلاف المطالع فى الفقه تعنى أن يكون لكل بلد بداية لشهر رمضان تختلف عن البلاد الأخرى، كأن يبدأ فى مصر الجمعة مثلاً، ويكون فى ليبيا السبت التالى، ويكون فى باكستان الخميس السابق. هذا الاختلاف يمكن استغلاله فى تشكيك الإنسان فى صومه تبعاً لرؤية بلده. وقد مررنا بتجارب سابقة لبعض الجماعات التى تسمى نفسها إسلامية وتُلزم أتباعها بالصوم مع المملكة العربية السعودية مثلاً وعدم اتباع مصر فى سنوات ما أُطلق عليها «الصحوة الإسلامية»، وكان الهدف هو إحداث الفتنة بين أبناء البلد الواحد، وكله باسم الدين والإسلام.
وفى أنابيشنا الفقهية نستعرض معاً أقوال الفقهاء المختلفة فى قضية اختلاف المطالع؛ ليعلم الإنسان المكلف حقه فى الاختيار بقلبه وما تطمئن إليه نفسه من تلك الأقوال بسيادة دينية ذاتية؛ إذ لا يستطيع فقيه ولا مجمع فقهى أن يدّعى عن اجتهاده أنه الصواب المطلق، وإلا كان زاعماً بعلم الغيب ومنتزعاً للدين من قلوب الناس وقناعاتهم إلى قلبه هو وقناعته ليفرض وصايته على الآخرين. وقد أمرنا الله تعالى بمقاتلة هؤلاء حتى يخلوا سبيل الدين لله بحيث يكون لكل إنسان مثل ما لصاحبه فيه، والحساب يوم القيامة بحسب النية والاجتهاد الشخصى وليس بحسب تبعية الأوصياء الدينيين؛ فقال سبحانه: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ» (البقرة: 193). وإذا سقط أوصياء الدين صح للناس بإرادتهم الحرة أن يتوافقوا على أحد الأقوال الفقهية ليلتزموا به بحكم اتفاقهم وقناعتهم وليس بحكم الكهنوت. وإذا اتفقوا على أمر وجب عليهم الالتزام بمقتضاه، كما اتفق المصريون على تحكيم دار إفتائهم فى حسم اختيار القول الفقهى عند اختلاف المطالع مع تعددها فى محاريب العلم على ثلاثة مذاهب، كما يلى:
المذهب الأول: يرى أن اختلاف المطالع هو الأصل فى الدين من وجهة نظر أصحابه. بمعنى أن كل بلد مستقل يخضع لحاكم مستقل يجب أن يستقل برؤية الهلال ولا يخضع لرؤية بلد آخر، فعلى المصريين أن يصوموا بحسب رؤيتهم ولو خالفوا دول العالم. وهو المعتمد عند الشافعية. ودليلهم عموم قوله تعالى: «فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (البقرة: 185). فهذا الخطاب موجَّه لكل جماعة متعايشة مع بعضها فى دولة مستقلة، وليس موجهاً لكل المسلمين فى الأرض. وهذا ما فهمه سيدنا عبدالله بن عباس فى حديث صحيح مسلم عن كريب قال: بعثتنى أم الفضل بنت الحارث إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت وقضيت حاجتها، واستهل علىّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة فى آخر الشهر فسألنى عبدالله بن عباس وقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفى برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بمعنى أن ابن عباس فهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» (الذى أخرجه الشيخان عن أبى هريرة) على أنه أمر لكل جماعة أو شعب وليس أمراً لكل الشعوب.
المذهب الثانى: يرى أنه يجب توحيد المطالع لكل المسلمين فى العالم ويكون لمن سبق برؤية الهلال. فلو رأى الهلال مسلم فى كوريا أو أمريكا، فعلى المسلمين فى مصر أن يبدأوا الصيام اتباعاً لتلك الرؤية، فرؤية الهلال فى أى بلد تلزم سائر المسلمين فى الأرض. وهذا مذهب الجمهور قال به الحنفية فى ظاهر المذهب، وإليه ذهب الحنابلة والظاهرية وبعض الشافعية فى وجه. ودليلهم عموم.
المذهب الثالث: توسط ما بين المذهبين السابقين؛ الذين قالوا إن لكل بلد مطلعاً، والذين قالوا إن الجميع يلتزمون بمطلع واحد، فقال: العبرة بقرب البلاد وبعدها. البلاد المتقاربة تصوم مع بعض بمطلع واحد، والبلاد المتباعدة تصوم حسب مطالعها ولو خالفت البلاد الأخرى. وهذا مذهب المالكية وبعض الحنفية والشافعية.
وإذا عرفت تلك المذاهب الثلاثة فستعرف كيف تحدث الفتنة فى الدين. عندما يأتيك الوصى الدينى ويأتى بالرأى المخالف لك ويعلى منه ويوهمك أن رأيه هو الصواب المطلق، وما تتبعه أنت هو الخطأ المطلق، فتتشكك فى دينك؛ لأنك تريد أن تعبد الله بحق. لكن إذا علمت تلك الآراء الفقهية الثلاثة فى المسألة فلن يستطيع أحد أن يشكك فى دينك؛ لمعرفتك أن كل رأى منها صواب يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب. وما دامت المسألة خلافية فليس من حق أحد أن ينكر عليك اختيارك الفقهى؛ لأن القاعدة الفقهية تقول: «لا إنكار فى المختلَف فيه». ويبقى الإنكار على من يخالف توافق المجتمع فى اتباع ما ارتضاه محكماً موثوقاً بينهم كدار الإفتاء المصرية عند المصريين.
ويترتب على اختلاف المطالع عدة مشاكل فقهية فى حال السفر لبلد مخالف، ومنها على سبيل المثال:
(1) إذا سافرت أول يوم رمضان من مصر إلى السعودية، وكان هذا اليوم فى السعودية هو المتمم لشعبان. فمن حقك أن تفطر عملاً بميقات السعودية باعتبارك ملحقاً بأهلها، ومن حقك أن تتمسك بصيامك عملاً بميقات بلدك الذى نويت الصوم منه. ويبقى ضرورة الالتزام بحسن الخلق فى إسرار صومك عند المخالفين حتى لا تفتنهم.
(2) إذا سافرت من مصر بعد صيام 29 يوماً من رمضان إلى السعودية، ووجدت عندهم عيد الفطر لكن مصر أكملت شهر رمضان ثلاثين. فمن حقك أن تفطر وتعيش العيد فى بلد السفر، ولا قضاء عليك؛ لأن الشهر يحتمل أن يكون 29 يوماً، ومن حقك أيضاً أن تصوم فى السر حتى تكمل الثلاثين مع أهل بلدك الأصليين. والصيام فى السر من أجل مراعاة مشاعر الآخرين.
(3) إذا سافرت من مصر بعد صيام شهر رمضان ثلاثين يوماً إلى السعودية فوجدتهم صائمين المتمم لرمضان لاختلاف المطالع وجب عليك أن تفطر فى السر حتى لا تصوم رمضان 31 يوماً، ويُحتمل أن تصوم معهم حتى لا تخالفهم. (4)إذا سافرت من مصر يوم 27 رمضان أو 28 رمضان إلى السعودية فوجدتهم فى أول أيام عيد الفطر بعد إتمامهم لرمضان بحسب اختلاف المطالع، فلك أن تصوم فى السر حتى يبلغ صيامك 29 يوماً على الأقل. ولك أن تفطر معهم فى العيد ثم تقضى ما فاتك من أيام بسبب السفر مع اختلاف المطالع. والدليل على أحقيتك فى متابعة أهل البلد الذى تسافر إليه ما أخرجه الترمذى بسند صحيح عن عائشة رضى الله عنها، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحى الناس».
إن الدين سهل وبسيط ولا تعقيد فيه بشرط ابتعاد الأوصياء الذين يحرصون على فرض وصايتهم وآرائهم على الآخرين. فقد أخرج البخارى عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يُسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وأبشروا». وقال تعالى: «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (البقرة: 185).
وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة فقهية أخرى.