الواقعة التى سوف أحكيها ليست درباً من الخيال أو فانتازيا أو مشهداً فى فيلم سينمائى، هى حقيقة حدثت وتحدث يومياً عشرات المرات.
الواقعة باختصار شديد أن اثنين من الأصدقاء المحترمين جداً من أصحاب الأخلاق العالية والأدب الجم أحدهما طبيب صيدلى يمتلك شركة تعمل فى مجال الأدوية والآخر مهندس يمتلك مكتب تصميمات هندسية وشركات للمقاولات ومواد البناء والديكورات.
ذهب الاثنان إلى محكمة زينهم لسداد قيمة التصالح فى مخالفة مبانٍ حوالى نصف مليون جنيه وبعد انتهاء الإجراءات وقبل مغادرة المحكمة طلب الموظف منهما الانتظار لحين الاستعلام عنهما، إذ ربما يكونان مطلوبين لقضايا أخرى وبالفعل تم اكتشاف وبعد ساعات من القلق بأن عليهما أحكاماً غيابية بغرامة 200 جنيه لكل واحد منهما مخالفة قمامة فى محافظة الدقهلية، فعرضا سدادها فى محكمة زينهم ولكن طلبهما قوبل بالرفض لأنه يجب السداد فى محل الواقعة بالمنصورة ولم تفلح كل محاولاتهما لإنهاء الأمر ولأن الوقت أصبح متأخراً ولن يتم السداد إلا فى اليوم التالى تم ترحيل الطبيب والمهندس فى سيارة الترحيلات من المحكمة إلى قسم الخليفة حيث قضيا 24 ساعة مع المجرمين والمسجلين خطر وأصحاب السوابق بسبب الـ200 جنيه. مؤكد أن وكيل النيابة معذور وهو يتخذ قرار التحفظ والترحيل وأيضاً الضابط الذى ينفذ القرار وكذلك موظف المحكمة، كل هؤلاء معذورون لأنهم يطبقون القانون.
ولم ينفع الطبيب والمهندس نظرية روح القانون التى كنا ندرسها فى كلية الحقوق التى يلجأ إليها أحياناً رجال القضاء للتغلب على قسوة القانون، التساؤل: هل هذه أمور يستوعبها العقل أو المنطق؟ كم تكلف المواطن من أجل سداد 200 جنيه؟!
بل كم تكلفت الدولة نفسها من أجل ذلك؟ عشرات أضعاف الغرامة من سيارات وكلابشات وكهرباء ووقود وأوراق رايحة جاية من المنصورة للقاهرة وإضاعة وقت وجهد، والتكلفة سوف تتضاعف لو أن المخالفة فى أسوان أو مطروح والوادى الجديد وأصحابها فى القاهرة أو الإسكندرية، هذه ليست واقعة فردية بل تحدث يومياً مع مئات المواطنين الصالحين ومؤكد هناك حلول، فإذا كانت المشكلة فى أن القانون يتم تعديله فهو ليس قرآناً وإذا كانت فى الإجراءات يتم نسفها.
لماذا لا يتم سداد الغرامة أو عمل الطعن على الحكم فى المحكمة نفسها التى تم فيها احتجاز المتهم أو الجانى أو المخالف؟
نحن دولة تدخل بقوة إلى عصر التحول الرقمى وأنفقت المليارات على ميكنة الخدمات وتقوم ببناء المدن الذكية فهل تعجز عن سداد غرامة زهيدة فى خزانة أى محكمة حتى لا يتعرض مواطنون صالحون محترمون للحبس وسط المجرمين؟ أثق تماماً بأن السيد وزير العدل والسيد رئيس المجلس الأعلى للقضاء والسيد النائب العام سوف يتخذون كافة الإجراءات اللازمة لحل هذه المشكلات من خلال التكنولوجيا الحديثة.
وحتى لا يصبح جميع المواطنين متهمين إلى أن يثبت العكس ولن أتحدث عن مشكلة تشابه الأسماء فهى أكثر خطورة والمجال لا يتسع لذكرها. الأمر الآخر، هل يعقل أن نشغل المحاكم والنيابات والشرطة بمثل هذه المخالفات التافهة (200 جنيه)!؟ وهل منطقى أن يقوم مجلس المدينة أو وزارة البيئة أو أى وزارة بتحرير مخالفات بهذا الشكل ثم إحالتها إلى النيابة أو المحكمة وإرهاق الجهاز القضائى بهذه الأمور الصغيرة؟! ومؤكد هناك آلية لتحصيل الغرامات الصغيرة تحفظ للمواطن كرامته ولا ترهق أجهزة الدولة.
رغم أننى خريج كلية الحقوق وفى منتصف العقد الخامس من العمر ومع ذلك لا أتذكر إطلاقاً أن قدمى تخطت أبواب المحاكم أو النيابات وأقسام الشرطة وهناك ملايين المواطنين أمثالى. ولكننا جميعاً قد نخوض تجربة الطبيب والمهندس والحبس فى التخشيبة مع المجرمين بسبب 50 أو 200 جنيه!!! والله الموفق والمستعان.