حواء الجديدة التى أخاطبها اليوم، هى حواء التى أحلم بأن تنهض بدور ريادى تنويرى خصيب يخلّص مصر وأجيالها من آفات عديدة بدأت للأسف تشرئب وتستشرى. هى حواء التى كانت دائماً عماداً لمصر والمصريين.. المدرسة الكبرى للعطاء والفهم والمحبة والحنان.. حواء بمشاعرها الإنسانية الفياضة، وبعلمها وثقافتها ونور معرفتها، وبقلبها العامر بالمحبة والحنان والإيثار.. حواء التى تعطيها عاطفة الأمومة أرقّ وأعمق المشاعر، والمحبة الغامرة الفياضة للإنسانية. ورغم ما تبذله الدولة والمجتمع من جهود طيبة لتمكين المرأة، ورعاية الأمومة والطفولة، فإن خفافيش الظلام لا يكفّون عن السعى لرد المرأة إلى القرون الوسطى وما كان فيه من ظلام واستبداد واستعباد للمرأة. واجب على حواء، ومطلوب منها، أن تتصدى بوعى وفهم واستنارة، للمحاولات المريضة الساعية لمصادرتها ووقف نموها وتعليمها ومعرفتها وفهمها وردّها إلى القرون الوسطى، إن الأم مسئولة، والأخت الكبرى مسئولة إن رحلت الأم، قبل البنت الطفلة، عن حمايتها من التدبير المغرض المريض الذى سعى ويسعى للنزول بسن زواج البنت إلى سن الطفولة، ومن ثم مصادرة طفولتها وتعليمها وحقوقها، والقضاء المبرم على مستقبلها فى أن تكون ذات قيمة فاعلة لنفسها وأسرتها ومجتمعها!
رأينا من خرجوا بالمجلس التشريعى الذى قُضى ببطلان تشكيله واعتباره غير قائم، ينادون بالنزول بسن زواج البنات إلى سن الطفولة، فلا بأس لديهم مع طعن من طعن بهم السن، وطالتهم الشيخوخة أو الكهولة، من أن يبنى بطفلة فى سن الثامنة أو التاسعة، وبلغ بهم الحرص على تقنين هذه «الشهوة المريضة» حد السعى لمحاولة التنصيص عليها بالدستور الذى تحكّموا فى تشكيل الجمعية التأسيسية لوضعه، وليشكلوه من ثم على هواهم.
على أن ما لاحظناه، ولاحظته مصر، أن المتنادين بدهس الطفولة بالنزول بسن زواج البنات إلى الثامنة أو التاسعة، انفردوا بالمسرح، ولم يقدّر أحد منهم أن للمجتمع بعامة، وحواء بخاصة، حقوقاً فى مناقشة هذه القضية لا يمكن تجاهلها، ولكنهم تجاهلوها.. تجاهلوا المجتمع وأصحاب العلم والرأى، وتجاهلوا حواء، فأصحاب مثل هذا المنطق لا يقسطون حواء حقها فى أن تناقش أو تُبدى رأياً حتى إن كان فى قضية من أمسّ حقوقها الإنسانية.
شىء خطير أن يفكر هؤلاء، مجرد تفكير، بالنزول بسن زواج البنات إلى الثامنة أو التاسعة، أى فى عز الطفولة التى من المفترض أن تتلقى التربية والتعليم، والتنشئة والرعاية، فهى مرعية لم تؤهَّل بعد لتكون راعية، وهى فى بداية سن التربية فى أوائل المراحل الدراسية، وهى لذلك قرة عين أسرتها والمجتمع كله الذى عليه أن يكفلها ويرعاها ويتيح لها الدراسة والتعليم والتنشئة الصالحة لتتكامل لها مقوماتها الدينية والشخصية والتربوية والتعليمية والثقافية، ولتكون عنصراً معطاء ذا قيمة من عناصر مجتمع يجب أن ينشد الترقى والتقدم إلى ما تصح به حياته وحياة ذكوره وإناثه وأبنائه وبناته.
على أن السادة المتنادين بالزواج من الطفلات فى سن الثامنة أو التاسعة، لم يعنهم شىء من ذلك، ولا التفتوا إلى حق المجتمع بعامة، وحق حواء بخاصة، ولا إلى القيم والنظام العام اللذين تمازجا على مرّ السنين، وكوّنا فكراً لا يُسيغ أن ينظر إلى طفلاتنا هذا النظر السقيم، لتُسحب الطفلة من الحضانة أو المدرسة الابتدائية ويزيَّن لها وهى فى هذه السن الغضَّة لا تدرك العواقب أنها ستكون عروساً، وستكون ربة أسرة، وستتخلص من همّ المدرسة والدراسة، وهمّ الواجب المدرسى والاستذكار، وهمّ الامتحانات، وما لها تتحمل هذه الهموم، وهى سَتُزَفّ عروساً إلى بيت العَدَل!
معنى هذا الغرض المغرض، الذى لم يستحِ فيه مثل هؤلاء الشيوخ والكهول من النظر إلى الطفلة نظرة لا تتفق مع طفولتها التى يجب أن تتلقى فيها الرعاية، لا أن تكون محلاَّ للاشتهاء، ولا التفت أحد منهم إلى الآثار المدمرة لهذا المنظور المريض الذى ينسف، إن نجح فى مرامه، أجيال بنات حواء، ويصرفهن عن التعليم والدراسة، وعن المدارس والمعاهد والجامعات، وعن كل ما يبنى فيهن ما يليق بهن فى القرن الواحد والعشرين، ويرتد بهن إلى العصور الوسطى، ومفاهيم الظلام والإظلام، الأمر الذى ينعكس على المجتمع بأسره وعلى أجياله!
ما يتاح لحواء فى التصدى لهذا الانحراف لا يتاح لغيرها.. فدوائر المحيط التى تحيا وتؤثر فيها دوائر متعددة، فى عائلتها الكبيرة أمَّاً كانت فيها أو بنتاً أو أختاً، هى مهجة هؤلاء كما هى مهجة أمِّها وأبيها، ألم يكن يحلو لنبى البر عليه الصلاة والسلام أن ينادى الزهراء بأمِّ أبيها؟ فى أسرتها الصغيرة التى بَنَتْ فيها بزوجها وأنجبا ذريتهما من البنات والبنين، حيث تتلقى هذه اللبنات جذور الآداب والتهذيب، والفهم الصحيح للدين.. مع جيرانها حيث تقطن وتعيش وتقيم الأواصر والصلات الإنسانية الفاهمة المتفهمة فيمن حولها؛ فى عملها حيث زمالات العمل وأواصره ووشائجه، وما يمكن أن تعمره من تعاون مشترك وفهم واستنارة بلا فوارق مصطنعة بين آدم وحواء، فى دوائر الفئات المتنوعة التى تتعامل معها من بنات حواء فى تبادل التعاون والاحتياجات، أو تلقِّى الخدمات.. حواء هنا وهناك هى الأم والزوجة والأخت والجارة والأستاذة والمدرّسة والزميلة والمتعاملة مع الجميع بدين من أبرز أخلاقياته حُسن المعاملة.. هنا فى هذه الدوائر المتنوعة آمل فى ثراء عطاء حواء.. الأم والمربية.. الأستاذة والمعلمة.. القدوة التى يتسع عطاؤها خصباً ثرياً فى كل هذه الدوائر التى لا يتوقف تأثيرها فيها. إنها التى تستطيع أن تعيد الحب الذى بدأ يغيب بيننا.. أن تشيع المحبة والتآلف والمسرّة فى حياتنا، بدل الكراهية والمقت والعبوس والتجهم.. أن تعلِّم مَن حولها أن الإنسان ينال بالتراحم والتكافل والبسمة والمحبة، ما لا يناله أو يفرضه بالعنف والضغن، أو ينتزعه بالإكراه والتخويف والضغط والإرهاب.. حواء هى التى تستطيع بفيض مشاعر الأمومة المتجذرة فيها أن تُنبت أشجار المحبة التى جفّت للأسف فى كثير من دوائر حياتنا.. هذا الحب الذى يصنع المعجزات، وتثرى وتَحلو به الحياة.
إنها التى تستطيع بمشاعرها السخية، وهى مربية الأجيال، أن تشيع فيمن حولها مشاعر الإخاء والتآلف والسماحة، وأن تقشع ظلمات التعصب والجمود والتصلب.. أن تعطى القدوة والمثل فى أن الناس تتقارب وتتعاون وتتكافل بالمحبة وحُسن المعاملة، وأن الخشونة والغلظة والجلافة والقسوة حصادها مرّ.. أن تعلّم أولادها بنين وبنات أن الدين محبّة، وأن الله محبّة.. أن تفطر الابن على احترام أخته، وأن تزرع فيمن حولها أن الله تعالى كرّم الإنسان، ذكراً وأنثى.. وأن القوة الحقيقية فى الإسماح والتراحم، وأن الفضل بالعطف والإيثار والرعاية والمودة.
إن حواء هى التى يمكن أن تفطر ابنها على احترام أخته، وأن الإقرار بحقها فرع على احترام الأم.. لم تكرّم الأديان أحداً مثلما كرّمت الأم والأمومة.. فيقول رسول البر والرحمة حين جاءه رجل فقال: «يا رسول الله، من أحق الناسِ بحسنِ صحابتِى؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك».. والأخت اليوم هى الأم غداً، ومن نبع هذه الأمومة تطيب الحياة على سُنن الحق والإنصاف والمساواة، ويفيض الإخاء والسماحة لا التعصب، وبجمال الإيثار والعطاء والإسعاد، لا الأثرة والشح.. لو خرجت لبنات الأسر مشبّعة بهذه المعانى التى يبثها حنان وفهم الأم، لما انجرف منهم أحد إلى مهاوى التطرف والجنوح والإرهاب والعنف والإيذاء.. من فُطر على محبّة الإنسانية، ومشاعر الإخاء يصدر فى تعامله عن هذه الأحاسيس والمحبات، وحب البذل والرحمة والعطاء.. الرحمة والعطاء قوة لا ضعف، والقوة الحقيقية هى الخلوّ من عُقَد الاستعلاء والتعصب.. وليس كحواء فى دوائرها المتعددة يستطيع أن يشيع هذه المعانى ويتجه بالتربية إلى أكمل الآداب الإنسانية وقيم الفهم والاستنارة.