«عين» حلوان والست خضرا.. «حوض مرصود» الفقراء
مغلقة حدائقها التى تسر الناظرين بصفة رسمية، ربما زادت الأبواب الموصدة أمام العامة من رغبة الواقفين على أبوابها والحالمين بمياهها الجوفية ذات السحر والأثر العلاجى السريع، يلزم من يتعدى حدود بوابتها استئذان القائم على حراستها بألا يغلق آخر أبواب الأمل فى وجهه، «عين حلوان» كانت ولا تزال قبلة المرضى الراغبين فى الاستشفاء، خاصة من الأمراض الجلدية، بينما تنافسها على جذب المرضى فى حلوان أيضاً «عين الست خضرا» التى يأتيها المصريون «كعب داير» طمعاً فى الشفاء، وكأنهما «الحوض المرصود» أول مستشفى للأمراض الجلدية فى مصر.
لم يوص الحاج «حسن» ابنه «عاطف» على عائلته أو أولاده قبل أن يلاقى ربه بقدر حرصه على وصية عدم التخلى عن عادة التردد على عين حلوان، حيث دأب أن يصحبهم إليها، فهى حسب وصف الأب كانت ملاذه للعلاج من أمراضه، ذكريات لا ينساها منذ قدومه من قريته بالبحيرة حتى ساعة الخروج من العين، فالرجل الأربعينى وأسرته كانوا يبيتون داخل «العين» ليالى طويلة، بينما الأم تملأ الأوانى بأكبر قدر من مياهها، فيما يحوم الأولاد حولها «أبويا كان بيقولى الميه دى ساكنها جنى أكيد، ومسحورة من أيام الحملة الفرنسية لما داوت الجيش من الدرن والجرب»، عاطف متذكراً كلمات والده.
مضت سنوات طويلة فى حياة عاطف وأسرته الصغيرة لم يصبه مكروه «ورثّت ولادى وصية أبويا لأن الوقاية خير من العلاج، مش لازم يستنوا لغاية ما يفاجئهم المرض، زيارة عين حلوان لا يمكن الاستغناء عنها»، العادة التى أورثها «عاطف» لأبنائه صارت منهجاً لأحفاده أيضاً «كل جمعة تزور عائلتى عين حلوان، وعشان كده كلنا بصحة جيدة وعمرنا ما رحنا مستشفى أو عيادة طبيب».
«عاطف» يساوره القلق والخوف أثناء دخول عين حلوان فى الخفاء، فالأوامر بإغلاقها فى وجه الزائرين لم تقف حائلاً أمام التردد عليها 4 مرات شهرياً، ولو وصل الأمر لتسلق السور فهو لن يمانع «العين ربنا باعتها لأهل مصر علشان يشفيهم، ويزيحوا الهموم المتواصلة بسبب التلوث والطعام المسرطن والعلاج التالف».
40 عاماً انقضت وعائلة عاطف لا يمسسها المرض، فخور بأن والده كان صاحب الفضل والنصيحة على أقاربه أيضاً حسبما يحكى «تعرضت بنت عمتى لتشوه وجهها قبل 10 سنوات فى حادث احتراق منزلها، ولم يفلح الأطباء فى استعادة وجهها إلى ما كان عليه، فوصفت لها العين وبقت تروح كل يوم حتى استعاد وجهها جماله ونضارته بعد ما قصدت كل دكاترة مصر والسعودية والكويت ومحدش دلها على علاج».
«نجاة متولى» صاحبة الـ55 عاماً قررت أن تقاوم أوجاعها مستندة على شقيقتها بعد أن خارت قواها، تهرول نحو العين التى لم تتخلف عن زيارتها منذ أن تفاقم الروماتيزم على قدميها، وصار يتسلل من أقدامها إلى بقية جسدها، ويشتد الألم مع حلول الشتاء، فلا تقوى على الحركة، وكانت زيارة «العين» الطقس الثابت فى يومها الذى يبدأ بصلاة الفجر، قبل التوجه للعين، حيث تشعر بتحسن تدريجى، وتستمد القوة من عين حلوان وتستطيع الركض كفتاة فى العشرين من عمرها حسب قولها «الميه دى فيها سر إلهى، كل الدكاترة أكدوا إن رجلى كانت هتفضل ما تتحركش بقية عمرى، لكنى تحسنت بعد زيارتها».[FirstQuote]
تجاعيد وجهه تكاد تنطق عن ضريبة الوجع المصحوب بسفر طويل دون علاج يذكر، أيام الأسبوع لدى الحاج رفعت بدير تعنى رحلة تنطلق من محافظته أسوان وصولاً للمنصورة ثم العودة إلى أسيوط، والذهاب إلى الإسكندرية، بحثاً عن تخفيف لألم الرطوبة التى تدب فى جسده، وبعد صرخات وعويل وحالة من الهياج العصبى يرتمى على منضدة بعد تناول المسكنات، «سنين طويلة جسمى بيوجعنى، رحت معظم مستشفيات الإسكندرية، بعدين توجهت لأسيوط، مش عندى أمل أتعالج استسلمت لقضاء ربنا بعد ما صرفت كل اللى حيلتى، وبعت أرضى ومعظم أملاكى عشان العلاج».
علاج عم «رفعت» ليس لدى الأطباء برسومهم الغالية، ولا حتى العطارين بوصفاتهم المبتكرة، فالسر فى عين حلوان، حيث نهاية المطاف من وجهة نظره، التى قرر أن تحط بها رحاله، فالعلاج داخلها متعدد الفوائد، نظراً لسرعة المفعول والمجانية والترويح عن النفس دون انتظار فى طوابير لا أول لها ولا نهاية، «النهارده بدأت العلاج فى عين حلوان وعندى شعور إنها الحل بعد ربنا بسبب سمعتها القديمة بالشفاء الربانى».
وفى حلوان أيضاً، يدفعون أموالاً طائلة لدخول ذلك العالم السحرى الملىء بعجائب الأشجار الملتفة حول بقعة أرضية واحدة يحلق حولها المرضى، وكأنهم حجاج فى موسم الطواف حول الكعبة، يؤدون مناسك العلاج الربانى، يتمتمون بالدعوات ويكتمون الصرخات، وبداخلهم يقين أن العلاج يختبئ بين قطرات المياه المدفونة داخل عين الست خضرا القاطنة بمدينة حلوان أيضاً، العامرة بخير الطبيعة، البعض استغنى عن ملابس الإحرام بالخفيف من الرداء، فيما نزل الأطفال يلهون بالمياه المعطرة حسب وصف أهلها، توليفة من الصحة والعلاج داخل الأسطورة الخيالية لسيدة مجهولة تركت وراءها تركة حدائق ومياه وصفت لمرضى قديماً، لقيمتها العلاجية النادرة نتيجة احتوائها على الكبريت والتى يقصدها القاصى والدان، وقبلة العلاج بكل أطياف المرض بعد رحلات اليأس من العلاج بالمؤسسات الحكومية والخاصة.
جنيهان هما رسم الدخول إلى دهاليز ذلك العالم السرى، فالحديقة تضم أعماراً مختلفة ومقاصد عدة، أكثر علاتهم التى جاءت بهم إلى عين «الست خضرا»، ورجائهم الذى يوصل عند قطع التذكرة حتى يدسوا أيديهم وأقدامهم ورؤوسهم وأجسادهم فى بئر المياه، قنوات عديدة تؤدى بك فى النهاية إلى المستشفى الربانى الصغير، وهو عبارة عن مترين ونصف على الأكثر، يتداوى داخله المرضى بأريحية، الذين لم ينتفعوا بالمستشفى الكبير ذى الطوابق الشاهقة، لذا راحوا يبحثون عما قل سعته وقل ثمنه.
«الناس بتزور الست خضرا من كل دول العالم بعد ما سمعوا بكراماتها»، يعتقد دائماً «أحمد جمال» أن علاج المرض الجلدى النادر الذى طفا فجأة على سطح جسمه، لن ينتزعه مليون طبيب بحسبه، «من زمان عندى اعتقاد بأن الدكاترة لا بيقدموا ولا يؤخروا، والعلاج الطبيعى كان الحل بالنسب لى بعد ما تأكدت أن العلاج هيبقى عند ربنا والست خضرا»، التعويذة التى أرشدته إليها زوجته التى نمى إلى علمها من جارتها، أن علاج الأمراض الجلدية طويل لكن يقصر إذا لجأ إلى الست خضرا لاحتواء المياه الكبريتية على علاج للطفح الجلدى، «معظم أصحاب الأمراض الجلدية والكلف اتعالجوا هنا وأتم الله شفاءهم» بحسب ما يعتقد الرجل الأربعينى.
بنظرة متفحصة حوله، يشير إلى ذاك الرجل الذى قطع إجازته فى إعارته بدولة السعودية ليتذوق مياه بئر الست خضرا التى يشبه نكهتها بمياه زمزم، لم يترك «إبراهيم رستم» طريقة للعلاج من ألم القرحة بالمعدة الذى كان يباغته ليلاً، فيدركه الوجع من حيث لا يدرى أو يحتسب، يتقلب على فراشه، ولا تستطيع أن تغفو عيناه، ليعود إلى بلده مرغماً من أجل عيون الست خضرا صاحبة المياه السحرية.
«إبراهيم» أنفق ما اكتنز فى غربته من أجل العلاج، حتى أسدى إليه أحد أقاربه بنصيحة تجربة البئر المائية الكبريتية بحلوان المعروفة بالست خضرا، بعد أن ذاع صيتها وتعدى حدود الوطن بالرياض، وصفه لم يلق له بالاً فى البداية، حتى قرر التجربة لعلها تكون مجدية، وحسب وصفه «اطلعت على كل كتب العلوم والسحر ولم أجد سر هذه المياه ذات فعالية السحر، الناس بتيجى من كل دول العالم للعلاج بها».[SecondQuote]
يحملون أوانى فوق رؤوسهم، النساء والفتيات لا يتعففن عن السير بالجراكن المعبأة بالمياه المبروكة، حسبما يصفها أهالى حلوان، محظوظات لوجودها داخل مدينتهن، لذا يقطعن مسافة كبيرة من منازلهن إلى العين، إذ لا يشفى صدور أسرهن سوى رشفة مياه، يحاولن تخزين كميات المياه التى تغنيهن عن التوجه للأطباء للعلاج، فكلما توجع الصغير «ملسوا» على شعره بالماء الطيب، وإذا مرض رب الأسرة لا يسكن آلامه شىء بخلاف قطرات المياه التى تنساب على وجهه وكفيه من خير «الست خضرا».
«عبده صابر» قدم من قرية «عرب الوالدة»، أملاً فى الشفاء بعين الست خضرا ذات السر «الباتع»، صاحب 18 ربيعاً يعالج من مرض الحساسية فى الصدر، لا يستطيع التنفس بسهولة، لا ينام ليله إلا بعد تلاوة ما تيسر من القرآن وإذا زادت حالته سوءاً، يتوجه فى منتصف الليل لمستشفى حلوان حيث الراحة المؤقتة بالمسكنات، بعدها تعاود نوبة الوجع بالصدر.
المرض الذى ورثه عن عائلته، خاصة والده الذى مات أسيره، يكرر محاولاته مع الابن، الذى يئس من الأطباء وزيارتهم المصحوبة بلعنات المرض وخيبة خفى حنين، حتى لاحت فكرة اللجوء لبركات الست خضرا، ومياهها التى تشفى العليل، فالمريض حسبما يسمع إذا ذهب إليها، مهما ثقلت علته، سيتماثل للشفاء، لذا بات يتردد عليها يومياً بعد انتهاء يوم عمله بورشة السيارات، «رحت لكل الدكاترة محدش قدم لى حل، وطبعا لأنى متعلم، مكنتش بصدق بالطرق البدائية للعلاج».
مع دقات السادسة صباحاً يحجز «عبده» موقعه داخل حديقة الست خضرا فى انتظار نصيبه من نفحات المياه الكبريتية المباركة، يجلس متأملاً البئر السحرية حسبما يصفها، وحين يتناهى إلى سمعه دوره فى الدخول تكون طاقة الأمل قد فتحت أبوابها له، «شعرت بتحسن على جسمى ونفسيتى وأصبحت أفضل، وبنام الليل بالى مرتاح».
لم تستسلم «أم بلال» للمرض أو القهر، قاومت كل مراحل العلاج وبدأت فى استخدام المياه الكبريتية التى بمجرد أن تمسح كفيها بها، تشعر بقدرة فائقة على تحريك يدها بكل يسر، بحسبها «بالرغم أنى من سكان المعصرة القريبة من حلوان فإنى عمرى ما سمعت بالست خضرا، وجوزى دلنى على المكان ونصحنى بالذهاب لأنه بيشفى المريض بمجرد النظر فقط، وكل اللى عنده أمراض خاصة الحكة والروماتيزم بييجوا لها من آخر العالم».