لم أكن متوقعاً أن تعطينى الإذاعة عبر أثيرها هذه الطاقة الفنية المصرية الخالصة، فتضفى على أوقاتنا فى زحام القاهرة شيئاً جديداً أمتعنا ومنحنا تذكراً لبساطة وعمق شارعنا دونما إسفاف ينال من هيبة الأثير الذى شكل وجدان الكثيرين منا بدءاً من «ألف ليلة وليلة»، حتى «كلمتين وبس»، استمعت إلى شكوكو ومحمد طه وياسين التهامى وأسماء أخرى نرجو من الإذاعة إعلامنا بها عند إذاعة أى أغنية، ولم يعجبنى سوى التنويهات على إطلاق الإذاعة الجديدة المسماة «شعبى إف إم»، أما «البدنجان أبوخل» لشكوكو فرغم دهشتى الأولى لكلمات الأغنية، غير أنها أعادتنى لتراث هذا المونولوجست العظيم الذى لم نرَ له مثيلاً، فتذكرت «جرحونى وقفلوا الأجزاخانات»، و«خليكو شاهدين يابهايم على غدر البنى آدمين»، و«تاكل ولا تنام خفيف»، وغيرها من أغنياته التى تعد جزءاً مهماً من تاريخ السينما المصرية.
ومن شكوكو إلى بدرية السيد التى تشدو بأغنيتها «موعودة بحبك موعودة.. برموشك وعينيك السودة.. والله أنا خايفة تشمت فيا كل بنات الحتة يا حودة» لم أجد نزولاً على رصانة الإذاعة بل حسبته محاولة لاستعادة ما فقدناه فى مبنى ماسبيرو المترهل وعودة إلى فن جميل بسيط معبر عن قطاع كبير من الشارع لا تملك أذنك أمامه سوى الإنصات، ومن هؤلاء العظام إلى فصاحة ياسين التهامى رحلة روحانية مع روائع الشعر الصوفى لتهذب النفوس الغارقة فى لذات الدنيا إلى رحاب التوحد مع الإله والتقرب منه فقد تصيبك قصيدة لابن الفارض أو ابن عربى فتذهب بك بعيداً عن هذا العالم إلى عوالم أخرى ليس فيها سواه، فـ«أكاد من فرط الجمال أذوب»، ومعها البقية «والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسى.. ولا تنفست مسروراً ومكتئباً إلا وأنت صهيلى بين أنفاسى.. ولا شربت شراب الماء من عطش إلا رأيت خيالاً منك فى الكاس»، ولن تستطيع الفكاك من روحانية هذه اللحظات التى تشكل جزءاً من طفولتنا وشبابنا، فكم مرة ذهبنا إلى ياسين حيث الآلاف تحيطه حتى ساعات الصباح الأولى ولا ننسى نفس المشهد مع أحمد التونى فى ساحة هنا أو هناك عند أبوالحجاج أو العارف بالله «أحمد الفرغل» أو عند سيدى عبدالرحيم القناوى، إنها جزء من ثقافتنا أعادته لنا الإذاعة المصرية بذكاء نتعشم أن يظل ذكاء ولا تجرحه الأغانى الهابطة أو الإسفاف، ونتمنى أن نجد على الأثير أحمد منيب ليغنينا «أم العيال العشرية» و«الدنيا برد وعم خليل بيسقى الورد»، وأيضاً بحر أبوجريشة «رحال» و«واه يا ليل يا أبوالليالى» وغيرها من طرب لا يعرفه الكثيرون الذين تاهوا بين قنوات الأغانى التى لا تسمع بل ترى.. وختاماً شكراً للإذاعة المصرية وشكراً للقائمين على بث «شعبى إف إم».