نحن المسلمين معتقلون فى الزمن، يعتقلنا الجلادون فى ما قبل 1400 سنة، حتى لا نرى ولا نعى ما قدمه لنا الدين الإسلامى من قيم مثلت ثورة فى تحرر البشرية آنذاك، سرعان ما انقلب مجتمع الصحراء عليه ليصوغوا فرقاً وطوائف ونزاعات سياسية، استخدم كل فريق الدين الإسلامى كغطاء لأطماعه، ونظل نحن فى الأسر لقرون، فمن غير المفهوم أن تقوم نزاعات وحروب وتزهق أرواح وتراق دماء لأن هناك من يرى الصحابة أشخاصاً مقدسين ومن لا يراهم كذلك، أو أن المسيح عليه السلام ولد صيفاً أم شتاء، لكن هذا الإغراق فى قضايا الماضى هو الوقود الحقيقى لمكاسب سياسية ومالية لا تنتهى، ويشكل الفكر والتمدين خطراً داهماً على كل تجار الدين ممن يدعون الأصولية لكنهم أبعد ما يكونون عن أصول الدين والقيم والأحكام.
لفهم تأثير التيارات الأصولية على إعاقة جهود تمدين المجتمعات العربية، يمكن رصد أربع استراتيجيات أساسية تتبناها وتؤسس عليها موقفها المناهض للمدنية والتفكير أو التقدم للمستقبل:
1) استراتيجيات مفاهيمية: ترتبط بالخلط بين مستويات المفاهيم القرآنية وتقديم مفاهيم مستمدة من التقاليد الغابرة، مطلقة بدون أى قياس على النصوص القرآنية وبدون اعتبار الممارسة النبوية لهذا المفهوم.
2) استراتيجيات التوظيف: توظف أصول الفقه بشكل غير دقيق وغير عادل، فتتبنى التغليب فى الخطاب القرآنى، وتقدم قاعدة سد الذرائع على القرآن والسنة النبوية، ويجتهد هذا الخطاب فى مناقضة حجج الخصوم بالتمسك بقراءة مشوهة للنص الشرعى يناقضها منهج أصول الفقه ذاته، فهى تتجاهل أسباب النزول ولا ترصد تطور التشريع القرآنى والنبوى.
3) استراتيجيات خِطابية اختزالية: انتقائية فى التعامل مع التاريخ ومع الواقع، فمن ناحية تتم الإشارة إلى التجربة النبوية وانتقال المجتمع من وضع الجاهلية إلى وضع المجتمع الإسلامى وتحرير العبيد ومساواة المرأة والعدل بين البشر، لكن من ناحية أخرى لا يتم تفعيل هذا التصور فى الواقع الراهن أو استخدام القياس فى الاجتهاد بشأن مناحى الحياة المختلفة وحقوق الفئات المختلفة فى الدين أو الفكر أو الجنس فى إنكار أصل لمفهوم الاختلاف.
4) استراتيجيات براجماتية: تضع الدين ضمن أجندات سياسية، ومن ثم تقوم بالاجتهاد طبقاً للواقع السياسى وإرادة الحكم أو التيار الغالب فى المجتمع.
يمكن القول إن الوقت قد حان لوقفة أساسية تستعيد بها الشعوب العربية والإسلامية نضالها المستقل من أجل التحرير، فنحن بحاجة إلى تنظيم قوافل من المحاربين ضد الأفكار الأصولية، وهذا الأمر يستلزم:
- تقييم الخطاب التنويرى وقدراته على التواصل مع المجتمع والبحث عن خطاب يتفاعل مع واقع المجتمع لينقله إلى تغيير حقيقى على مستوى الأفكار والاتجاهات والممارسات، وليس على مستوى الخطاب فقط.
- خلق مساحة عمل مشترك لبناء تحالفات لديها القدرة على نشر الوعى وبناء حركة قادرة على مواجهة المد الأصولى، لاسيما بعد أن بات العالم يدفع ثمن دعمه لهذه الجماعات.
- دعم وتشجيع الاجتهادات الحديثة والتفسيرات التحررية للنصوص المقدسة ونشر الوعى بهذه الاجتهادات.
- تشجيع توسعة العمل الفكرى والثقافى والبحث والاجتهادات على نطاق واسع يشمل طلبة المدارس والجامعات لاكتشاف دينهم، وإن كان هذا مرهوناً بالنظر فيما يدرسه أبناؤنا من قراءات عنصرية وآراء متطرفة ضمن المناهج.
- الرصد والمتابعة لحركات التنوير الإسلامى فى كل بلد، وتبادل المعلومات والخبرات، وذلك لمتابعة الجهود والتحديات والعمل على دفع التقدم فى هذا الاتجاه لاسيما أن هناك العديد من الحركات الإسلامية التنويرية فى مناطق خارج المنطقة العربية.